في ظل الجنون الإسرائيلي المُستعر في قطاع غزة الذي تبدو الأمثلة عليه كثيرة وشاملة أهمّها قتل الأطفال واستهداف المستشفيات والمرضى بشكل عشوائي وغير مسبوق، يمضي "حزب الله" أبرز الأطراف المعنيّة بالحرب الدائرة في غزة وفي جبهة جنوب لبنان، في إدارة المعارك العسكرية ضمن قواعد اشتباك لا تجعلها حرباً واسعة. وهو الأمر الذي دفع مراقبين الى وصفه بالعقلانية، بعيداً من الخلافات السياسية الداخليّة ومن قرار السلم والحرب الذي يصادره "الحزب"، وفقاً لما تعتبر شريحة واسعة من اللبنانيين.
وتعود العقلانية في ما يتعلق بالتعاطي مع العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى أمرين أساسيين:
أولهما متمثّل في القرار الذي اتُّخذ إقليميّاً ومحليّاً باعتبار ساحة الجنوب ساحة مساندة لا ساحة حرب مباشرة.
أما الأمر الثاني، فهو متمثل بحسابات داخلية لـ"حزب الله" مرتبطة بإمكانيات إعادة الإعمار إذا ما توّسعت رقعة الحرب، علماً بأنّ هذا النوع من الحسابات مشترك بين "الحزب" وإسرائيل، التي قد تكون مخاوفها من القدرات التدميرية التي يمتلكها "حزب الله" هي الرادع الوحيد الذي يمنعها من ممارسة جنونها في الداخل اللبناني كما تمارسه في غزة، ولا سيما بعد التصريحات الدولية الأخيرة التي تحاول على الرغم من المسيرات الشعبية التي جابت عواصم العالم، أن تحرف نظر الرأي العام الدولي عن الانتهاكات والإجرام الإسرائيليّ المتماديين.
ويبدو أنّ "حزب الله" مصرّ على الاستمرار في سياسة عدم إدخال لبنان وجنوبه خاصّةً في حرب واسعة ومباشرة، وهذا ما يكلّفه أثماناً باهظة ولا سيما على الصعيد البشري، إذ إنّه حتى الساعة نعى 118 من مقاتليه الذين قضوا بالقصف الإسرائيلي وببعض العمليات المتفرقة.
وهذا العدد الكبير من الخسائر البشرية، يعود إلى أمر ميداني مباشر مرتبط بقيام "الحزب" بمواجهة إسرائيل من واجهة الحدود مباشرة، أيّ إنه يقوم بالقتال في الرقعة الحربية الأولى محاولاً إبعاد العمليات العسكرية عن معظم القرى والبلدات الحدودية.
وبعيداً من العقلانية المُشار إليها، يبدو أنّ إسرائيل بدأت بإرسال رسائل مباشرة قد يكون الهدف منها هو التمهيد لبداية شنّها عمليات عسكرية أوسع على جنوب لبنان.
وبشكل واضح، وصلت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى عمق الجنوب اللبناني إن صحّ التعبير، وذلك عبر استهدافها مقراً قديماً للهيئة الصحّية التابعة لـ"حزب الله" في بلدة بصليا، وغالباً ما يأخذ هذا النوع من الاستهدافات بعداً استخباراتياً.
(المنزل الذي استُهدف في بلدة الطيبة بسبب أعمدة الإرسال الموضوعة على سطحه)
كذلك توسّعت العمليات العسكرية الإسرائيلية بشكل ملحوظ بين أمس واليوم. فبعد استهداف إسرائيل عدداً من المنازل بسبب وجود أعمدة إرسال عليها أكثر من مرة، اتجهت أمس الى استهداف المنازل السكنية، وذلك عبر غارة طالت منزل المدعوّ عباس حمود في بلدة كفركلا، لم ينتج عنها أيّ إصابات بشرية.
(منزل عباس حمود في كفكرلا الذي دمّرته غارة إسرائيلية)
وفجر اليوم الخميس، طال القصف الإسرائيلي أحد المنازل في بلدة مارون الراس، ما أدّى إلى استشهاد السيدة نهاد موسى مهنا، فيما نُقل زوجها إلى مستشفى صلاح غندور وهو في حالة صحّية حرجة.
( الشهيدة نهاد موسى مهنا)
واستهداف المنازل طال أيضاً بلدة مركبا، حيث دُمّر منزل إبراهيم عبد الرضا ارسلان، الذي نعاه "حزب الله" في وقت لاحق.
(الدمار في بلدة كفركلا)
وفي كفركلا أيضاً استخدمت إسرائيل للمرة الأولى منذ اندلاع الأحداث الأخيرة في الجنوب أسلوب القنص، ما أدّى إلى استشهاد الشاب ربيع ضاهر.
وفي مقابل هذا التصعيد الإسرائيليّ، برز عنصر هام أيضاً متمثل في إقدام "حزب الله" على استخدام صواريخ حارقة صباح اليوم الخميس، أُطلقت على أحراج برانيت رداً على إحراق إسرائيل حرج الراهب، بالإضافة إلى قيام "حزب الله" بشن هجوم جوّي بثلاث مسيّرات انقضاضية دفعةً واحدة على تجمّعات الجيش الإسرائيلي المستحدثة خلف مواقعه في مزارع شبعا.
ملاعب: هل يعود "حزب الله" ليكون حصان محور الممانعة الأول"؟
وفي سياق متصل، يؤكّد الخبير الاستراتيجي والعسكري العميد المتقاعد ناجي ملاعب في حديث إلى "النهار" أنّ "من البديهي عسكرياً أن يستجرّ كلّ تصعيد تصعيداً أكبر، وكلّما تمكن "حزب الله" من إحداث خسائر في الصفوف الإسرائيلية، سترد إسرائيل بشكل أعنف، وهذا ما يستدرج استخدام أسلحة جديدة.
وهنا يمكن القول إن الأسلحة التي ظهرت حتى اليوم والتي استخدمها "حزب الله" هي المسيّرات والقذائف الكبيرة ذات المفعول التدميري، ولا سيما صواريخ بركان، بالإضافة إلى قذائف مضادّة للطيران بوجه طوافتين إسرائيليتين خرقتا الأجواء اللبنانية أمس.
وبالتالي نتحدث هنا عن دفاع جوّي، فبالرغم من عدم إحداث "حزب الله" إصابات في الطوافتين الإسرائيليتين، فإنه من خلال هذه الصواريخ المضادة للطيران أرسل إنذاراً يؤكد امتلاكه سلاحاً دفاعياً جوياً، وهذا عنصر جديد يدخل المعادلة العسكرية".
في ما يتعلق باستهداف إسرائيل للمنازل، يقول ملاعب: "المقاومة ليس لديها قواعد معروفة ولا ثكنات معلن عنها في جنوب لبنان، وقوات "اليونيفيل" خلال قيامها بمهامها بشكل دائم في مناطق الجنوب عبر دوريات دائمة لا ترصد أي وجود عسكري لـ"حزب الله" بشكل معلن على الأرض، وبالتالي يمكن القول إن لـ"حزب الله" أماكن ينطلق منها كالغابات وبعض المنازل، وهذا قابل للرصد الجوّي من قبل إسرائيل التي تقوم بهذه المهمة عبر المسيّرات والأقمار الصناعية.
وعبر عملية الرصد تلاحق إسرائيل أماكن إطلاق الصواريخ سواء أكانت المسالك المعروفة والوعرة، أم السيارات التي تقترب منها، كما أن إسرائيل تستهدف أيّ هدف يمكن أن يكون مكاناً يستخدمه "حزب الله"، وهذا ما شهدناه اليوم عبر استهداف إسرائيل منطقة إقليم التفاح، شرقي صيدا وجزين.
ورأى ملاعب أن "إسرائيل تعتمد على المحاولات الديبلوماسية المكوكية القائمة من قبل الأميركيين عبر سفارتهم في لبنان أو بعض الموفدين الأميركيين إلى لبنان أو عبر الديبلوماسية الفرنسية بشكل واضح، لوضع حدّ للحرب القائمة.
وهنا يبدو أن ما طرحته الجهات اللبنانية مع الديبلوماسيين المشار إليهم، هو نوع من احتضان عمل المقاومة، بهدف إمكانية الوصول إلى اتفاقية أبعد من ترسيم الحدود البرية، قد تنصّ على إمكانية انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وهذا ما قد ينزع فتيل الحرب من الجبهة الجنوبية".
ويشير إلى أن "إسرائيل تطلب اليوم رفع مستوى القرار 1701 إلى الفصل السابع، وذلك لتصبح المهام القتالية في جنوب لبنان محصورة فقط بيد "اليونيفيل"، من دون أيّ تدخل من قبل الجيش اللبناني، فيما الديبلوماسية الأميركية تحاول أن تصل إلى ترسيم الحدود على الرغم من أنه لا يقنع "حزب الله" بسحب سلاحه".
وينهي ملاعب معتبراً أن "حزب الله يتعامل مع جبهة الجنوب على أنها جبهة مساندة، وبالمقابل نرى أن النشاط الذي تقوم به القوات الحوثية في اليمن ليس معزولاً عن مفهوم وحدة الساحات، وهذا يدلّ على أن الجهد الأساسي الذي كان يعوّل عليه محور الممانعة انطلاقاً من "حزب الله"، انتقل إلى اليمن.
لكن اليوم بعد تشكيل قوى بحرية قبالة اليمن، هل يعود "حزب الله" ليكون حصان محور الممانعة الأول"؟
سكّان المستوطنات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية يرفضون العودة
يُذكر أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أشارت إلى أن سكان المستوطنات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية يتخوّفون من أن القصف الإسرائيلي الشديد، صباح أمس الأربعاء، على مناطق قريبة من الحدود قد يكون استهدف نفقاً لـ"حزب الله".
وفي هذا السياق، لفت بعض سكان المستوطنات المشار إليها إلى أنّ مخاوفهم ناجمة عن سماع أصوات حفريات تحت منازلهم في مراحل سابقة، سبق لهم أن حذروا من أن تكون عمليات حفر أنفاق تحت الأرض من قبل "حزب الله".
وفي سياق متصل، قال رئيس لجنة مستوطنة شتولا في غرب الجليل الأعلى، يانيف تورجمان إنه "عندما قلنا إنهم يحفرون، قال الجيش لنا إننا نهذي، ونحن لا نعلم ما إن كانوا في حينه اكتشفوا جميع الأنفاق".
ويرفض نحو 80 ألفاً من سكان المستوطنات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية العودة إليها بعد إجلائهم منها في بداية الحرب على غزة قبل شهرين ونصف الشهر، وهذه إشكالية كبيرة متعلقة بموضوع الثقة القائمة بين الجيش الإسرائيلي والإسرائيليين والتي دخلت في مرحلة واضحة من التصدّع بعد انطلاق أحداث غزة، وفق الصحيفة.