تطوي سنة 2023 آخر أوراقها من دون إحراز أي تقدّم على مستوى الملفات العالقة والمتراكمة داخلياً، فيما لم يتم الوصول إلى أيّ حلّ، أو المباشرة بحلّ لأيّ من الإشكاليات الأساسية المعرقلة لبناء الدولة أو لوضع الدولة على السكة الصحيحة.
الملف الرئاسي
لم يتقدّم الملف الرئاسي قيد أنملة. ومثلما بدأ العام بفراغ رئاسي قاتل انتهى كذلك، فلم يعقد مجلس النواب طوال عام 2023 سوى جلستين انتخابيتين لا أكثر، الأولى في أوائل العام، والثانية في حزيران.
اختلفت الجلسة الثانية عن الأولى بأن جلسة كانون كانت امتداداً لجلسات عام 2022 التي يتنافس فيها ميشال معوض مع الورقة البيضاء، فيما عُقدت جلسة حزيران بعد شبه إجماع مسيحيّ على المرشح جهاد أزعور بوجه مرشح الممانعة الوزير السابق سليمان فرنجية؛ ولم تصل إلى نتيجة، فأقفل بعدها البرلمان على الجلسات الانتخابية.
لم تنفع الزيارات المكوكية التي قام الموفد الخاص للرئيس الفرنسي الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزير الخارجية السابق جان إيف لو دريان، في تحقيق أيّ ثغرة في الجدار الرئاسي المسدود، فيما الموفودون القطريون، الذين صالوا وجالوا على المسؤولين اللبنانيين، لم يكونوا أفر حظاً، ولم تكن لجهودهم نتيجة.
حتى الساعة، يتمسّك فريق "حزب الله" وحلفاؤه بترشيح سليمان فرنجية، وترفض المعارضة والتيار الوطني الحر هذا الخيار، ليُقفل الباب على أيّ تقدّم في الملف، حتى بعد المقايضة التي عرضها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بإعطائه الصندوق الائتماني واللامركزية الموسّعة مقابل القبول بفرنجية.
ومنذ شهر تشرين الأول بداية معركة طوفان الأقصى، لم يعد الملف يتصدر الأولوية، ووضع في الأدراج؛ ترافق ذلك مع غياب الموفدين الدوليين والحراك الداخلي بهذا الشأن، مما أوحى بأن تحريكه لن يتم قبل الوصول إلى حلّ في قضية غزة؛ وهو الأمر الذي لا يزال بعيداً.
مجلس النواب
انتهت سنة 2023 على إنتاجية هزيلة أو معدومة، فلم يقرّ مجلس النواب أغلب مشاريع القوانين الأساسية والأصلاحية المقدّمة لديه، بل إن بعض القوانين الإصلاحية التي أقرّت لم تنشرها الحكومة، واسترجعتها، كقانون الإجارات غير السكنية الذي أقرّ في جلسة كانون الأول.
ويمكن اعتبار إقرار مشروع القانون القاضي بتعديل بعض أحكام قانون الضمان الإجتماعي وإنشاء نظام التقاعد والحماية الاجتماعية، بعد إدخال تعديلات على بعض موادّه، من أهمّ ما أُقرّ في هذا العام؛ وذلك بعد 20 عاماً من الانتظار. ولكنه بحاجة إلى أكثر من 15 مرسوماً تطبيقياً حتى يصبح نافذاً، وهنا تكمن الكارثة. فإذا تعرقلت المراسيم التنفيذية يبقى القانون حبراً على ورق، مثله مثل عشرات القوانين التي أقرت من دون مراسيم تطبيقية.
عدا عن ذلك، نستطيع القول إن جلّ ما قدّمه المشرّعون اللبنانيون يتمثّل بقانونيَ تمديد، الأول للمجالس البلدية والاختيارية، والثاني لقائد الجيش وقادة الأجهزة الامنية.
هذا على مستوى المؤسسات السياسية. أمّا على مستوى الملفات الاقتصادية المعيشية فلا يظهر لدينا فرقٌ كبير، إذ إن الأمور لا تزال تسير بطريقة الترقيع، من دون أيّ إجراءات فعلية أو إصلاحات جذرية تعطي الأمان والثقة للمواطن.
وجرعة الأمل، التي انتهت عليها السنة الماضية، بالاتفاق على ترسيم الحدود والأمل باستخراج غاز من بحر لبنان يُعيد الانتعاش إلى الاقتصاد اللبناني، فقد تبددت في الثلث الأخير من هذا العام مع الاعلان عن عدم اكتشاف حقل غازي وخلو منطقة البحث من الغاز، ممّا أعاد الأمور إلى النقطة صفر.
سعر الصرف
الأمر الإيجابي إن جاز الوصف هو استقرار سعر الصرف مرتفعاً في الثلثين الأخيرين من العام، من دون أن يُشكّل انتقال حاكميّة مصرف لبنان من رياض سلامة إلى وسيم منصوري أيّ خضّة ماليّة، في الوقت الذي بقي السوق محافظاً على ثباته.
وعلى الرغم من اندلاع الحرب في تشرين الأول، ودخول لبنان طرفاً فيها، مع ما لذلك من تأثيرات على الوضع الاقتصادي، خصوصاً على السياحة، التي كانت الشريان الأكبر المغذّي للاقتصاد، فإنّ سعر الصرف حافظ على ثباته بعد 3 أشهر على اندلاعها، بل عادت حركة المطار لتشهد ازدهاراً ولو خجولاً.
هذا الامر ردّه الاقتصاديون إلى الإجراءات التي اتّخذها مصرف لبنان، وأهمّها إنهاء منصّة صيرفة، التي كانت تكلّف أعباءً مالية، وترك مفعولها لموظفي القطاع العام لا غير لتنجح مسألة اجتياز امتحان تأمين الرواتب بالدولار؛ وهي مسألة شكّلت عنصراً أساسياً من عناصر تثبيت الاستقرار النقديّ بعدم إغراق السوق بالعملة اللبنانية، لو تمت إعادة دفع الرواتب بالليرة اللبنانية. ولم يستعمل المصرفُ الاحتياطيَ لهذا الأمر بل عمل على الحصول على الدولار من السوق لزوم تلك الرواتب وحاجيات القوى الأمنية والعسكرية. كذلك، أوقف المصرف ضخّ الليرة اللبنانية في السوق بشكل عشوائيّ، كيلا يحصل تضخّم يضرب سعر الليرة مقابل الدولار. وهو أمر تكرّر بالتعامل مع الحكومة، خصوصاً إزاء مطالب وزارات كالطاقة والمياه بشأن الكهرباء.
في عام 2024، لا توحي المؤشرات بأنّ الاستقرار النقدي سيتعرّض لأيّ اهتزاز، بدليل عدم التدرّج في تغيّر سعر الصرف، لا صعوداً ولا هبوطاً، خصوصاً أنّ منصوري لن يخاطر بهذا الاستقرار، وسيتدخّل عبر منّصة "بلومبرغ" بالوسائل التقليدية المتوافرة أيضاً لإبقاء الاستقرار.
القطاع العام
أما بالنسبة إلى المشكلة الكبرى والأهمّ، والتي تتمثّل بموظفي القطاع العام، فلا تزالت الإضرابات متحكّمة بالقطاع، ولا مرفقَ يعمل بشكل مستمر، إلا بمقدار يومين في الأسبوع. ولا تزال الحكومة تعتمد الحلول الترقيعيّة التي لم تصل إلى أيّ هدف كالمكافآت والمساعدات الاجتماعية، وهي جميعها تبقى دون مطلب الموظفين، بل لا تفي بجزء صغير من متطلباتهم. والخطب الفادح أن الاقتراح الأخير من الحكومة بمضاعفة الرواتب ثلاث مرات إضافية، وإعطاء مليون ليرة ونصف المليون على كلّ يوم حضور لم يسلك طريقه إلى التنفيذ، نتيجة عدد من الاعتراضات عليه، أهمها الإلزام بعدم الغياب عن الوظيفة، تحت طائلة شطب الحضور عن الشهر كلّه، فضلاً عن اعتراض المتقاعدين عليه باعتباره غير منصف. لكن البحث ما يزال جارياً عن حلول ترقيعية، من دون أي ضمانة لعودة هذا المرفق الأساسي، خصوصاً أن أغلبية مدخول الدولة يتحقّق عبره.
يذكر أنه بحسب مرسوم الإنتاجية المرتقب إقراره لموظفي الإدارة، لا بدّ للموظف من أن يعمل لمدة 20 يوماً بالحد الأدنى على مدار الشهر، وإلا يُمنع عليه الحصول على الحوافز المالية. وفي حال داوم الموظف بشكل كامل، فإن الحوافز المالية المستحقة له بعد اقتطاع ضريبة الدخل منها، ستتراوح ما بين 290 دولاراً للفئة الخامسة و450 دولاراً للفئات العليا. وستضاف الحوافز إلى الرواتب السبعة التي يتقاضاها حالياً الموظف الإداري. لكنه في جميع الحالات، فإن الحوافز أو أي زيادات أخرى لن تُضاف إلى الرواتب الأساسية ولا إلى تعويض الصرف ولا رواتب التقاعد.
غلاء فاحش من دون رقابة أو محاسبة
إلى ذلك، يستمر التضخم والغلاء الفاحش في الأسواق من دون أي محاسبة أو رقابة. فبحسب تقرير للبنك الدولي أن حجم ارتفاع أسعار الغذاء في لبنان، بين أيلول 2022 وأيلول 2023، وصل إلى 239 في المئة، مما يضع لبنان في المرتبة الثانية عالمياً بعد فنزويلا.
ويُشير التقرير إلى أنه عند نهاية عام 2022 بلغ سعر صرف الدولار 60 ألف ليرة، قبل ان يصل مع نهاية 2023 إلى معدل 89 ألف ليرة، ممّا يعني أنّ سعر المواد الغذائية ارتفع إلى نحو خمسة أضعاف سعر صرف الدولار. ولو أضفنا معدل ارتفاع اسعار الغذاء العالمي ما بين 5 و10 في المئة، فهذا لن يغير شيئاً من واقع التضخم الكارثي في لبنان، خاصة أنّ الغذاء يشكّل العبء الأكبر على الأكثرية الساحقة من السكان.
الموازنة
في المبدأ، تحلّ الموازنة العامة عدداً كبيراً من المشكلات من ناحية تقديم الخدمات، بالإضافة إلى ضبط إيرادات الدولة، وتشكّل ورقة محاسبية دستورية لعمل الدولة لمدة سنة، ويُفترض بالدولة أن تلتزم بها. لكن ما يجري حالياً لا يشي بالخير من حيث الموازنة المقدّمة من قبل الحكومة، والتي تحتوي على كمّ هائل من الضرائب والتوقعات بإيرادات غير مضمونة، فضلاً عن دولرة أغلبية القطاعات.
وعلى الرغم من دراستها من لجنة المال والموازنة وإدخال تعديلات على 133 بنداً منها، أغلبها يتضمن رسوماً ضريبية، فإن الأجواء تفيد برفضها في الهيئة العامة، نتيجة معارضة عدد كبير من النواب لها، بالإضافة إلى رفض عدد كبير من النواب العودة إلى البرلمان والتشريع باعتبار أن المجلس هيئة انتخابية، وأن ما جرى بالنسبة إلى التمديد للقائد كان استثنائياً ولمرة واحدة.
لكن هذا الخيار يبقى خطيراً إن لم تناقش الموازنة في مجلس النواب، ويتمّ إجراء تعديلات عليها، لأنّه يُصبح بإمكان الحكومة أن تقرّها كما هي بمرسوم لعدم قيام المجلس بواجباته.
الكهرباء
وفي النهاية تبقى الكهرباءُ المشكلةَ المستمرة منذ ثلاثين عاماً من دون حلول. فاستجرار الطاقة من الأردن ومصر الذي عُمل عليه لسنة كاملة تعرقل، وتوقف لنقص التمويل وأمور متعلّقة بقانون قيصر ورفض الإدارة الاميركية منح لبنان استثناءً.
وفي الأشهر القليلة السابقة أقرّت الحكومة خطة للكهرباء، تتضمن ساعات تغذية أكثر وثابتة، إلّا أن التنفيذ لا يزال حبراً على ورق، ولم يحصل المواطن سوى على رفع الفواتير وقيمة الاشتراكات بنسبة كبيرة أو خيالية، مع تغذية كهربائية لا تتجاوز الثلاث ساعات في أحسن الأحوال، فيما ذهبت أغلبية القطاع الخاص إلى الطاقة البديلة (الطاقة الشمسية)، وكذلك جزء كبير من اللبنانيين، وتم الاستغناء عن هذه الخدمة من الدولة.
وحالياً، تعتمد الدولة على الفيول العراقي فقط لتغذية المعامل وإعطاء الخدمة للناس، وأيّ عرقلة لهذه الشحنات كما جرى في الأسابيع الأخيرة من العام ستُدخل لبنان في العتمة الشاملة. ويبدو أن الأمور مستمرة خلال العام المقبل كما هي.