النهار

معاناة نزوح في بنت جبيل... تساؤلات عن "أموال المغتربين" والمساعدات البلديّة والحزبيّة "غير كافية"
بتول بزي
المصدر: "النهار"
معاناة نزوح في بنت جبيل... تساؤلات عن "أموال المغتربين" والمساعدات البلديّة والحزبيّة "غير كافية"
سوق بنت جبيل التجاريّ خالٍ من روّاده في أيّام الحرب ("النهار").
A+   A-
لا تُشبه الحركة في مدينة بنت جبيل اليوم ما كانت عليه في الأسابيع الأولى للحرب. تفرغ المدينة من أهلها بنسبة 95 في المئة، ما خلا الحركة اللافتة أمام مستشفى صلاح غندور لضرورات الإسعاف اليوميّة. سوق بنت جبيل التجاريّ الشهير، والذي أعادت دولة قطر إعماره بعد حرب تموز 2006، بات خالياً من روّاده الذين يقصدونه من القرى المجاورة كلّ يوم خميس، ومعه المحال التجارية الصغيرة التي يتّكئ أصحابها على مدخولها اليوميّ.

حركة النزوح الكبيرة في بنت جبيل بدأت بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مدنيّين، للمرّة الأولى، في كانون الأول الماضي، بعد صمود لافت لأسابيع. بعض الأهالي وَجد لدى أقاربه في القرى المجاورة وبيروت والضاحية الجنوبية ملجأَ له، والبعض أيضاً اضطرّ مرغماً إلى استئجار منزل موقّت بإيجارات باهظة، فيما آخرون وجدوا أنفسهم في العراء، قبل أن تتضافر جهود المعنيّين في البلدية والأحزاب وبعض الأفراد من أهالي البلدة لتأمين مأوى مناسب.
 
تصوير الزميل أحمد منتش.

قصص نزوح صعبة
 
أنهكت الحرب كاهل السكّان في بنت جبيل كسائر قرى الجنوب، وبخاصة مَن يعتمد على قوت يوميّ، ولم يكن يتوقّع أنّه سيضطرّ إلى ترك منزله قسراً. ثمّة قصص نزوح مؤلمة وصعبة يرويها أهالي المدينة لـ"النهار". مع بدء حالة النزوح، لجأت عائلة إلى شاطئ الغازية بعدما وجدت نفسها بلا مأوى، قبل أن تُبادر مجموعة من شبّان البلدة لتأمين منزل لها في الغازية. كما اضطُرّت عائلات للسكن معاً، وعدد أفرادها يفوق العشرين في منزل واحد في الضاحية الجنوبية.

وفي قرية عين بعال قضاء صور، اضطُرّ أحد النازحين من بنت جبيل إلى استبدال الحليب اليومي لطفله بخليط المياه والسكّر، وذلك بسبب عدم ملاءمة الحليب الممنوح من جهات الإيواء صحّةَ الطفل، إضافة إلى الصعوبات المادية المتفاقمة للعائلة، ما استدعى تحرّكاً من إحدى الجهات الحزبيّة لتأمين كمية من علب الحليب موقّتاً.
 

نازحو بنت جبيل بالأرقام
 
يتوزّع نازحو مدينة بنت جبيل على عدد من الأقضية والبلدات، فيما يستقطب قضاء صور العدد الأكبر، نسبة إلى قربه جغرافيّاً وتأمين فرص عمل موقّتة للنازحين.
 
يصل إجمالي النازحين إلى حوالي 1550 عائلة موزّعة في عدد من المناطق اللبنانية، وفق الأرقام التي حصلت عليها "النهار" من منصّة بلدية بنت جبيل المخصّصة للنازحين.
 
تتوزّع 466 عائلة على قرى قضاء صور، 14 عائلة منها لجأت إلى ثلاث مدارس رسمية، والبعض الآخر يقطن في بيوت مستأجرة أمّنتها البلدية وخلية الأزمة التي شكّلتها حركة "أمل" في بنت جبيل، بالتعاون مع مركز الإيواء في صور. أمّا قرى اتّحاد بلديات القلعة- تبنين، والتابعة لقضاء بنت جبيل، فتضمّ 88 عائلة نازحة حتّى اليوم.

إلى ذلك، عملت خلية الأزمة في حركة "أمل" على تأمين حوالي 450 منزلاً للنازحين منذ بدء الحرب، وأكثر من 115 منزلاً منذ مطلع العام الجديد، ما يُبرهن حالة النزوح الكبيرة التي حصلت قُبيل أيام من رأس السنة، بسبب كثافة الغارات التي طالت المدينة.

وفق آخر الأرقام، فقد بات أكثر من 95 في المئة من سكّان بنت جبيل في عداد النازحين اليوم، ولم يتبقَّ داخل المدينة سوى حوالي 50 عائلة من أصل 1600 عائلة مقيمة. كذلك البلدات المجاورة في القضاء، كمارون الراس، عيترون، حانين، يارون، عيتا الشعب، راميا، فقد فرغت من سكّانها بنسبة كبيرة أيضاً.

في الأيام الأخيرة، تقتصر الحركة في بنت جبيل على عشرات الأشخاص الذين يتنقّلون بشكل شبه يوميّ أو عند الضرورة، من القرى المجاورة، لتفقّد ممتلكاتهم أو زيارة بيوتهم على عَجَل، ومن ثمّ العودة إلى قرى النزوح. لكنّ الخطر الأمنيّ كبير جدّاً في المدينة، فيبقى الأهالي في حالة ترقّب دائمة لتحرّك المسيّرات الإسرائيلية فوق رؤوسهم لحظة بلحظة، فالقصّة "ليست مرجلة"، وفق وصفهم.
 

نازحون في مدراس صور

الصرخة الإنسانية تعلو مع تفاقم أوضاع النزوح وبرودة الطقس، وخاصّة النازحين في المدارس الرسمية. في ثانوية حسن فران، أربع عائلات من الأقارب، تضمّ 12 فرداً بينهم أطفال واثنان من كبار السنّ.
 
تشكو نور (اسم مستعار) قلّة المساعدات الغذائيّة في الأيام الماضية، فـ"لم تشملنا المساعدات التي وصلت إلى بعض العائلات هنا، باعتبار أنّنا نازحون جُدد، وأسماؤنا أُدرجت على جدول ملحق".

في ليالي البرد، تضطرّ نور للتقنين فتُشغل مدفأة الغاز التي قدّمتها إحدى الجهات الأهلية، بسبب كلفة الغاز المرتفعة، فـ"لا مدخول مادياً لدينا، ولا مساعدات نقدية مباشرة من الجهات الرسمية، ما خلا بعض المساعدات الفردية والرمزية من أهالي البلدة".

صحيح أنّ حالة النزوح في المدارس تبدو الأكثر صعوبة اليوم، مع اقتصار المساعدات على فراش وأغطية وأدوات تنظيف، إلّا أنّ بلدية بنت جبيل لم تتوانَ عن تفقّد أحوال النازحين، ما استدعى جولة من رئيس البلدية عفيف بزّي على الأهالي في مدارس صور، عارضاً عليهم تأمين منازل مستأجرَة لهم مثلما حصل لعائلات أخرى، ولكنّهم فضّلوا البقاء في المدارس للاستفادة من الوجبات اليومية المقدَّمة إليهم، وهذا ما تؤكّده نور بالقول: "زارنا رئيس البلدية، لكنّنا عاجزون عن الانتقال إلى منزل خالٍ من الأثاث لعدم قدرتنا على تجهيزه، ورأينا أنّ البقاء في المدرسة أفضل".
 

استغلال حالة النزوح في صور

لم تُشكّل معاناة الحرب رادعاً أمام تجّار الأزمات، بل كانت باباً مشرّعاً للاستغلال خصوصاً مع موجة النزوح الكبيرة التي دفعت بالمئات من أهالي بنت جبيل للجوء إلى خيار استئجار منازل في صور وضواحيها. 
 
 يشكو مواطنون عبر "النهار" من استغلال معاناتهم، فقد باتت الإيجارات تتراوح اليوم بين 1000 و1800 دولار لمنزل لا يساوي إيجاره أكثر من 500 دولار في صور.

كُثر وجدوا أنفسهم أمام معادلة مُرّة: الميسور ماديّاً استطاع استئجار منزل في وقت قصير، ومن يعاني أحوالاً مادية صعبة، اضطرّ إلى النزوح صوب المدارس أو إلى منزل أحد أفراد العائلة والمعارف. أمّا القاطنون في شقق فارغة في صور، فهم في حاجة ماسّة إلى مستلزمات مطبخيّة (غاز، صحون، طناجر...) لتيسير متطلّباتهم الحياتيّة.

أغلب البيوت التي عملت الفاعليات البلدية والأهلية على تأمينها في قضاء صور هي لِقاء إيجارات شهرية، أمّا البلدات الأخرى فكانت أكثر تعاوناً مع النازحين، وكُثر من العائلات قدّمت منازلها للنازحين من دون تكاليف، وبينها عدد كبير من البيوت الجاهزة للسكن في قرى مجاورة مثل الحوش، كفردونين وديركيفا.

حالة استغلال الأزمات في صور لا تُشبه جوّ التكاتف والإلفة في منطقة الغازية قضاء صيدا، حيث نزحت عشرات العائلات من بنت جبيل، وقد استطاع بعض فاعليات المنطقة تأمين منازل فارغة وأخرى مفروشة لإغاثة عدد من العائلات.
 

صرخة الأهالي

يشكو عدد من النازحين البطء في تنفيذ خطّة طوارئ في بنت جبيل منذ اليوم الأول للحرب، وهو ما يرفضه رئيس البلدية عفيف بزّي رفضاً تامّاً، مؤكّداً لـ"النهار" أنّه "باشرنا بإحصاء العائلات عبر منصّة لتسجيل الأسماء منذ بدء النزوح، وبات لدينا خريطة انتشار في كلّ لبنان لمن تسجّل عبر المنصّة"، مع التأكيد على "تفهُّم صرخة الأهالي"، إذ إنّ "النازح لن يكون مرتاحاً خارج مسكنه، وعلينا تحمّل الأهالي ومساعدتهم، ومن الطبيعي أن تبقى الصرخة مهما كانت التقديمات، فالنازح في حاجة إلى كلّ شيء ولا نستطيع لومه".

الشكوى الأساس التي تطال عمل البلدية اليوم هي الحاجة الملحّة للأهالي إلى تقديمات مالية مباشرة، وليس فقط الاكتفاء بتوزيع المساعدات الغذائية، التي وصلت إلى 1200 حصّة في الأيام الأخيرة، إضافة إلى الأدوية، ومستلزمات تدفئة والمطبخ، وقد رفض أحد النازحين تسلُّم العيّنة من البلدية، قائلاً: "هناك من يستحقّ أكثر منّا"، فيما العجز الأكبر يكمن في عدم قدرتها على دفع مبالغ مالية مباشرة للأفراد، لسدّ عجز المدخول الشهريّ لدى البعض بسبب انقطاعهم القسريّ عن العمل.
 

يردّ بزّي على هذه الانتقادات بالتأكيد على أنّه "لا قدرة للبلدية على دفع مساعدات مالية مباشرة، فموازنة بلدية بنت جبيل لهذا العام لا تصل إلى 25 ألف دولار، ولا تكفي لجمع النفايات"، ويضيف لـ"النهار": "للأسف هذه دولتنا وهذه الأموال الممنوحة إلينا، ونحن مضطّرون إلى التعاون مع الجمعيات الخيرية والجهات الحزبية والسياسية والجهات المانحة الدولية لتأمين المساعدات بـ"القطّارة"، فأزمة النزوح عامّة وليست فقط في بنت جبيل".

ثمّة همس في المدينة عن اتّهامات بـ"سرقة أموال المغتربين" التي وصلت لأهالي البلدة، فيما يؤكّد بزّي أنّ "التحويلات محدودة جدّاً، ولن تكفي جميع النازحين، ونضطرّ لسدّ الحاجات الضرورية لذوي الأوضاع الصعبة جدّاً كأولوية".
 
هذه الاتّهامات تقابلها تأكيدات لـ"النهار" أنّ تحويلات المغتربين في بنت جبيل تراجعت في فترة الحرب، بعكس الأزمات السابقة التي مرّت على البلدة كأزمتَي كورونا وانهيار الليرة، فالمبادرات اليوم فردية بحتة. وهنا يُرجع البعض شحّ التحويلات إلى مخاوف لدى المغتربين من "التردّدات السياسية لتحويلاتهم في الحرب"، فيما يرى رأي آخر أنّ الشحّ "قد يكون مرتبطاً بتردّي الأوضاع المعيشية في العالم أجمع، وسط عدم استقرار أمنيّ واقتصاديّ".
 

تقديمات بلديّة وحزبيّة

يتابع المعنيّون في "حزب الله" وحركة "أمل" أوضاع النازحين على الأرض، إلى جانب البلدية التي خلقت فريق أزمة موزّع على الأراضي اللبنانية، إلّا أنّ العمل لا يزال يفتقر إلى التنسيق وتضافر الجهود. وهنا يؤكّد عضو كتلة "التنمية والتحرير"، النائب عن بنت جبيل أشرف بيضون، "الحاجة إلى عمل اجتماعيّ أكبر، فعمل الجهات الحزبية والبلدية متكامل ولكنّنا بحاجة إلى تنسيق أكبر في ما بيننا خصوصاً أنّه لا يمكن الالتفاف إلى هويت النازح وانتمائه".

مَن يطلب حاجة تُلبّى، لكنّ الانتقادات تتعالى لدى فئات لم تتلقَّ تواصلاً من أحد حتّى الساعة، فيما يُطالب بزّي الأهالي بـ"التواصل مع الفرق المنتشرة في أماكن النزوح، فلن أستطيع معرفة المشكلة إن لم يُبادر الشخص إلى الاتّصال بنا".

على خطّ المساعدة، يُنسّق اتّحاد بلديات صور مع خلية الأزمة في بنت جبيل لتأمين العائلات النازحة لديه، إلّا أنّ تلبية الحاجات لا تزال بطيئة جدّاً، خصوصاً مع اشتداد الطقس البارد، وازدياد الحاجة للتدفئة والفرش والوسائد والأغطية. أربعة أغطية فقط تُمنَح لعشرة أشخاص مثلاً، وقد سلّم مركز الإيواء في صور 19 ألف غطاء لنازحي القضاء بالمجمل من أصل 24 ألف نازح، ما يعني نقصاً في 5 آلاف غطاء. وهنا يؤكّد بيضون "العمل مع وزير الشؤون الاجتماعية لتأمين النقص من الجهات المانحة، إضافة إلى تأمين أكثر من 6 آلاف ليتر من المازوت للتدفئة".

وعبر "النهار"، يُناشد بيضون "القوى السياسة والجمعيات للتكاتف والعمل جماعيّاً وتحديد الهدف لتخفيف الأوجاع عن النازح، فالمساعدات العينية جيّدة لكنّ النازح بحاجة إلى تأمين السيولة المادية لتأمين مستلزمات غير مشمولة بمساعداتنا".
 
لا تختلف قصص المعاناة في بنت جبيل عن غيرها من قرى الجنوب إذاً، في وقت باتت حالة النزوح أمام مرحلة جديدة مع مؤشّرات بتمدّد الأزمة، وبات الأهالي في حاجة ماسّة إلى مساعدات نقدية بالدولار لسدّ العجز في مدخولهم جرّاء مخلّفات النزوح.
 

اقرأ في النهار Premium