في سياق اقتباس، قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بلغة تبنّي معاناة أهل الجنوب والقرى الحدودية ووجعهم "نرفض أن نكون رهائنَ ودروعاً بشريّة وكبشَ محرقة لسياسات لبنانية فاشلة، ولثقافة الموت التي لم تجرّ على بلادنا سوى الانتصارات الوهميّة والهزائم المخزية".
وما هي إلّا ساعات حتى انطلقت صفّارات الجيش الإلكتروني لـ"حزب الله"، وشنّت حملة تخوين مسيئة في حقّ بكركي والبطريرك، واتّهمته بالعمالة، وتمّ وضع صورته بزيّ إسرائيليّ ومن خلفه علم إسرائيل.
ذريعة أنّ الخلافات تصمت في ظروف الحرب غير واقعية. فإنّ أحداً لم يعطِ "حزب الله" وكالة لاتّخاذ قرار الحرب، ولم يفوّضه القتال باسم الجنوبيين واللبنانيين، حتّى من هم من بيئته يرفضون هذه الحرب، بغضّ النظر عن تأييدهم له بأيّ مسار ومصير. وبالتالي، الحملة هي في الواقع ثقافة ومنهج، لفريق لا يحتمل الحرية والديموقراطية والتعبير في الرأي والموقف والممارسة، إلّا في حدود قواعد محدّدة ومفصّلة على قياس المشروع المستورد من إيران.
حملة التخوين منهج مسار اعتاد عليه "حزب الله" وكلّ الأنظمة الشمولية في المنطقة.
هي ثقافة "الخميني" الذي اعتبر دوماً أنّ ياسر عرفات أقرب إليه ومشروعه من الشيعة في جنوب لبنان في ثمانينات المنصرم. فحتى هؤلاء مهدور دمهم إذا خالفوا وصايا الخميني وأهدافه. أن ننسى، لن ننسى لقمان سليم وباقي الشهداء.
التخوين منهج لإخضاع الآخر وعدم الاعتراف بكيانه وبحرية وجوده. إخضاع مطلق لتفسيرات تسنّها شرعة الولي الفقيه في السياسة والأمن والفكر والقول والعيش في المجتمع.
إنّهم، مجهولو النمط والسّلوك اللّذَين يعيشونهما، أهي سكيزوفرينيا سياسية أو تعبير ضمني عن رفض لعقيدة موجودة عنوة. يهاجمون بكركي وسيّدها إذا تحدّث بقاموس سيّدهم، ويهلّلون لكلام ملحم الرياشي لأنّه اعتبرهم حزباً لبنانياً بأجندة لبنانيّة. حتّى الرياشي ناقض ما يقوله السيّد نصرالله.
فليقولوا مثلاً كيف أخطأ البطريرك إذا تحدّث عن "ثقافة الموت" و"الانتصارات الوهمية"؟ فليظهروا للبنانيين أين تعيش ثقافة الحياة لديهم؟ وأين هي الانتصارات الحقيقية؟ وكيف تُرجمت؟، أفي الأمن والسياسة والاقتصاد والمال والحرية الفردية وحرية الرأي...؟
مهاجمة "حزب الله" لبكركي ليس أمراً عابراً. ليس لأنّه "لا يعلم"، بل هو يعلم قدرة بكركي وتأثيرها، في إبقاء الوطن وطناً ولبنان لبنانَ. فوجود بكركي قوية، يعني الحرية المصانة للجميع على أرض واحدة. التعددية في إطار من الوحدة والعيش المشترك. والسيادة لقرارات الدولة والكيان. وإسقاط لكلّ مشروع شمولي يناقض المشروع اللبناني. أو لنقلها صراحة، لأنّها العقبة أمام اكتمال مشروع "الحزب" في لبنان.
هل تصحّ أن تُقام حملة تخوين ممّن يتّبعون ويعملون لأجندة غير لبنانية؟
هي بكلّ بساطة تقويض لأسس العيش المشترك والشراكة بين اللبنانيين وتعميم لمشاريع الدم والدمار.
هي محاولة إظهار قدرة وهمية لفرض الرأي الواحد على الآخرين.
هي محاولة للمسّ بهيبة البطريركية وتاريخها والتشكيك بدورها الوطني النهضوي الثقافي والحداثيّ، وبكل مدماك تضعه من أجل بناء لبنان الجديد.
هي ببساطة ضرب لفكرة لبنان الأمس، أي لبنان الكبير ولبنان المستقبل.
ما قاله الراعي هو البوصلة والحقيقة. لأنّ الحقيقة أنّ غالبية اللبنانيين وربما جميعهم يرفضون الحرب، ويريدون الحياة. ومن هو غير قادر على العيش بحرية، فليطرح ما يريد، علّ المطالبة بإعادة النظر بتركيبة النظام اللبناني باتت أمراً ضرورياً.
لا يزال يتصدّر وسم "راعي العملاء" "الترند" على منصّة X منذ قال البطريرك عظته يوم الأحد. ومع علمنا بعدم حصولنا على الجواب الحقيقي، إلّا أنّ حقيقة من هو "العميل" يمكن استنتاجها من واقع على شكل أسئلة. كيف قُتل صالح العاروري في قلب الضاحية؟ كيف قُتل قائد "الرضوان" في قلب الجنوب؟ كيف تمّ استهداف مقاتلي "الحزب" في بيوتهم ومراكزهم وسياراتهم؟ كيف قُتل علماء النووي وقيادات الحرس الثوري في قلب طهران؟ من نفّذ صفقة ترسيم حدود لبنان البحرية مع إسرائيل؟ إلى أيّ بيئة ينتمي من تمّ توقيفهم منذ سنوات بعيدة إلى اليوم كعملاء لإسرائيل؟
الأكيد أنّ الجيش الإلكترونيّ التابع لـ"حزب الله" قد يكون أخطأ العنوان، فبدل اتهام بكركي، ربما إذا علم بسيرة "كاثرين بيرز شكدم" سيعرف من هو "راعي العملاء"، وإذا قرأ في كتاب "الخميني يغتال زرداشت" سيعرف حتماً عمّا تحدّث الراعي في عظته عندما تناول ثقافة الموت والانتصارات الوهمية، لكنّ الخطيئة الكبرى إذا كانوا يعلمون ولا يتكلّمون.