دخلت المواجهة على الساحة الجنوبية شهرها الخامس، والمؤشرات والتحضيرات تدلّ على توسّع الحرب في الأشهر المقبلة.
بمعزل عن الكلام الدعائي والجهد والجهاد لـ"إسناد المقاومة الباسلة والشريفة" في قطاع غزة، وعن آلاف الصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى وقدرات "حزب الله" العسكرية التي بناها طوال سنوات، منها المعلن ومنها غير المعلن، لم تكتسب المواجهة التي بدأها "الحزب" في 8 تشرين الأول 2023 الجديّة، ولم تُحقق أهدافها بدقة، لا إسناداً ولا مشاغلةً، لسبب بسيط أن 70% من غزة باتت أنقاضاً، وأكثر من مليوني فلسطيني دخلوا رفح، والقضية الفلسطينية إن لم يتوقّف الطموح الإسرائيليّ هي قيد التصفية لا سمح الله.
لم يُصِب السيد حسن نصرالله عندما خاطب اللبنانيين بالصوت الصاخب بأنّ "الذي منع إسرائيل حتى الآن من شنّ العدوان على لبنان هو أن في لبنان قوةً، وأن في لبنان مقاومة، وأن في لبنان رجالاً لله"... فإسرائيل ضربت، وتضرب عمق نفوذه، في الضاحية، النبطية، البيسارية، بعلبك،... تطال المسيّرات قياداته على الطرقات، في المنازل، في الساحات وفي التلال والغابات، في عملية استنزاف ممنهجة لـ"الحزب".
شكلُ المعركة لا يُعطي تفوقاً للحزب الذي تخطّت خسائره القيادية الـ300 بين قيادي وعناصر. فالأسلحة المستخدمة تختلف عن عام 2006. المواجهة وقتذاك كانت بالمباشر، ويبدو أن الإسرائيلي استقى منها الدروس والعِبر وبات يعلم.
اليوم، تَستخدم إسرائيل الذكاء الاصطناعي، الحرب التقنية، والجوية، إضافة إلى تفوّقها في الحرب النفسية، وهي وسائل وتقنيات يفتقدها "حزب الله"، أو أن قدراته فيها محدودة، وهو يعلم. مسيّراتها تحوم في سماء بيروت حاملة قنابل كبيرة، من دون قدرة للحزب على إسقاطها. عينُ أقمارها الاصطناعيّة تغطي الـ10452 وأكثر، تدخل بيوتنا وتراقب شوارعنا، وهو يعلم. ميزانية الدفاع للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية تقدّر بـ18 مليار دولار لعام 2024 من دون المساعدات الأميركية، فيما مالية "حزب الله" لدى إيران هي بحدود الـ800 مليون دولار سنوياً. في العلم العسكري، كلام "حزب الله" عن "توازن رعب" أو "توازن ردع" أسقطه مسار الحرب الأخيرة، ولا يرقى إلى مستوى التوازن الحقيقي على المستويات كافة، والحديث عن إسقاط المسيّرات كـ"هرمز 450" مثلاً للرافعة المعنوية فقط.
لا يعني ذلك أن ليس للحزب القدرة على تحقيق إصابات عسكرية نوعية إنْ سُمح له بذلك، أو إن تحولت المواجهة إلى مباشرة. فهناك إجماع على أن أيّ حرب بريّة ستكبّد الإسرائيلي الخسائر، في ظل أفضليّة الميدان لصالح "الحزب"، وإتقانه فنّ إخفاء أسلحته.
لكن سائلاً يسأل عن التوقيت لاستخدام هذه القوة - إذا وُجدت - وخسائره اليوم تخطّت المعقول! ومتى يحن الوقت؟ وهل كان من وقت أفضل من 7 تشرين الأول 2023 كي "يُمطر" "حزب الله" إسرائيل بالصواريخ ويدفنها في أعماق الأرض؟
في المعلومات، أنّه بغض النظر عن امتلاك "حزب الله" صواريخ استراتيجية تحقق التوازن الجويّ أو حتى البريّ، فإنّ القرار الإيراني بعدم توسّع الحرب شكّل مدماك أداء الحزب القتاليّ. فالإيراني، بحسب المعلومات، أوصى قيادة "حزب الله" بعدم استخدام صواريخ بعيدة المدى، بل صواريخ أذيّتها محدودة، وكذلك مداها الاستراتيجي، لعدم تفلّت ضوابط الميدان وأخرى مرسومة إقليمياً ودولياً، في تقاطع إيراني - أميركي، يهدف أولاً لعدم المساس بما نضج من ثمار المفاوضات بين البلدين؛ وثانياً، بهدف محاولة إضعاف حكومة بنيامين نتنياهو وإسقاطها، إذا أمكن قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. كما أن هناك جانباً إيرانياً همّه، أولاً، عدم خسارة "حزب"، استثمرت فيه طهران منذ نشأته الكثير الكثير، ليقينها بعدم التوازن مع الدولة العبرية، وثانياً، لتفادي الوصول إلى وضع يُطرح فيه سلاح "حزب الله" على طاولة التسويات الإقليمية والدولية.
فأمرُ العمليات الإيراني، كبّل حركة "الحزب"، ومنعه من استخدام ما يميّزه عن الجيوش العسكرية التقليدية كحركة مقاومة، يملك عناصرها حرية الحركة والمناورة والقتال بخلفيّة إيديولوجيّة؛ فانتهى به الأمر بقصف عمود تجسّسي، وبعقيدة سياسية ظهرت أنها لا تعكس إلّا الأوهام عندما تدقّ ساعة الحقيقة.
فمن لم يستطع تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، كيف له أن يصلّي في القدس؟ وهل بات يخفى على اللبنانيين أن الادّعاء بمهمّات إلهيّة لم يجلب إلا الدمار والانهيار المالي والاقتصادي لساحات الجنوب والبلد كلّه منذ الـ2006؟ وهل هذه العقيدة ستعيد بناء أكثر من 30 ألف وحدة سكنية لأهالي الجنوب منذ 8 تشرين الأول 2023، يوم قرّر "حزب الله" منفرداً إعلان جبهة المشاغلة أو "المساندة" وفتح النار على إسرائيل؟
الواقع العسكري اليوم يفرض تطوراً في الواقع الميداني والسياسي الذي نشأ إبّان حرب تموز. كلا الطرفين، إسرائيل و"حزب الله"، يفتّشان عمّا يُمكن تسميته "انتصاراً" ليُصرف في داخل بيئة كلّ طرف، فتُطرح أفكار ومبادرات، تدور في إطار الـ1701، لكنّها قابلة للالتفاف حوله، وعدم تنفيذه حرفياً، كمطلب إبعاد عناصر الحزب 10 كيلومترات من الحدود الشمالية لصالح الجيش أو قوات دولية أوروبية، فيما لا ترفع إسرائيل أو المجتمع الدولي شعار تسليم "حزب الله" سلاحَه. تتظهر هنا صورة وحدة ساحات، تجمعها التقاطعات، وتبدأ بواشنطن مروراً بتل أبيب وصولاً إلى طهران فبيروت، للالتفاف على قرار الأمم المتحدة رقم 1701.
من هنا، تتكثّف الجهود الدولية، التي يقودها آموس هوكشتاين بالخصوص، بما يمثّله أميركياً، لإبعاد لبنان عن كأس النار، وفصل جبهة الجنوب عن غزة، لمصلحة لبنانية أسوة بالمصلحة الإسرائيلية، ولتوضع الكرة في ملعب "الحزب"، علّه يستغلّ المساحة السياسية المطروحة حالياً لتجنيب لبنان الدمار والخراب واللبنانيين المأساة، لأنّ الصرخات الصامتة التي لا تريد الحرب، خصوصاً في الجنوب، أكثر بكثير ممن يعلنون ذلك، ناهيك بأنّ الجانب الإسرائيلي بدوره لا يريد الحرب كما يصرّح، لكنّه لن يتوانى عنها كما يبدو لإعادة مستوطنيه إلى الشمال بأيّ ثمن، علماً بأنّ خرائط توسّع الحرب باتت جاهزة على ما يبدو في داخل المقارّ العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وقرار تدمير لبنان ينتظر التوقيت.