النهار

الحريات في لبنان... العقلية الأمنية تتحكّم
اسكندر خشاشو
المصدر: "النهار"
الحريات في لبنان... العقلية الأمنية تتحكّم
لبنان.
A+   A-
تعود قضية الحريات إلى الواجهة من جديد في لبنان، فما يكاد النقاش بشأنها يخفت قليلاً حتى يعود فيتوسّع من باب ممارسات ما يُسمّى القضاء العسكري. ومع بدء الحرب في فلسطين والتحاق لبنان بركبها، زادت عمليّة التضييق، تحت شعار لا كلام خلال المعركة، وأن على الجميع الصمت حتى انتهاء الحرب.
 
في المرحلة المنصرمة من عهد الرئيس السابق ميشال عون، كانت الأيام حافلة بحملات كبيرة على إعلاميين وأصحاب رأي ومثقفين تحت شعار تحقير رئاسة الجمهورية، وزادت بشكل كبير تزامناً مع انطلاق الحراك الشعبيّ في 17 تشرين 2019، لتتباطأ وتيرتُها قليلاً بعد انتهاء ولاية عون.
 
وعلى الرغم من هذا التباطؤ، بقيت مسألة الادّعاءات والاستدعاءات ناشطة من وقت إلى آخر، خصوصاً في الملفات المركزيّة والأساسية كملفَي الحرب في الجنوب وقضيّة انفجار مرفأ بيروت.
 
ففي قضيّة المرفأ، ومنذ بداية العام، وبعد إصدار النائب العام العدليّ المكلّف بقضيّة تفجير مرفأ بيروت، صبّوح سليمان، قراراً بتعليق تنفيذ مذكّرة توقيف بحق وزير الأشغال الأسبق يوسف فنيانوس في هذا الملف، انتقد الصحافي رياض طوق النائب العام العدلي، واتّهمه بقبض ثمن هذا القرار، فتمّ استدعاؤه إلى المباحث الجنائيّة بشكوى تقدَّم بها القاضي سليمان أمام النيابة العامة التمييزية بجرائم القدح والذم والتشهير. أمّا الحدث الثاني فهو طلب المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة الإذن بملاحقة المحامِين واصف الحركة وعلي عبّاس وبيار الجميل بجرائم القدح والذم وتحقير القضاء خلال مشاركتهم في تحرّك مفاجئ، نظّمه عدد من الطلّاب في قصر العدل في بيروت، لمناسبة الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت. يومها، دخل الطلّاب إلى القصر حاملين صور سياسيين وقضاة ورؤساء أجهزة أمنية مدّعى عليهم في قضية تفجير مرفأ بيروت، كتبوا عليها عبارة "فارّون من العدالة"، ووضعوها على الأرض. ومن بين الصّور، كانت صورة النائب العام التمييزي السابق غسان عويدات، والمدير العام للأمن العام السابق عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، والوزير السابق غازي زعيتر. كان المحامون الثلاثة موجودين في قصر العدل، ووقفوا إلى جانب الطلاب ودعموهم في تحرّكهم.
 
أما على صعيد حرب الجنوب، فمنذ بدايتها، بدأت الأمور تأخذ منحى خطراً جرّاء التُّهم الخطيرة التي تُساق ضدّ كلّ من يُعلن رفضه للحرب، ومنها العمالة للعدو الإسرائيلي. فبعد استضافة الإعلامية ليال الاختيار الناطق العربي باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، ضمن إطار عملها في قناة "العربية"، وليس ضمن الأراضي اللبنانية، رفعت مجموعة من المحامين القريبين من فريق الممانعة دعوى ضدّها. كذلك، تحرّك القضاء العسكري نتيجة الإطلالات الصحافية للباحث والناشط السياسي مكرم رباح؛ والخطورة الكبيرة في هذا الأمر هو تحويل هذه الملفات إلى المحكمة العسكرية مباشرة باعتبار أنّها تمسّ الأمن القومي.
قد ينجو شخصٌ من التحرّك الرسمي أو القضائي، لكن جيوشاً إلكترونية منظّمة ستتحرّك بوجهه، وستُنظّم حملات ضخمة، تتراوح من التخوين وهدر الدم إلى التهديد بالقتل والحرق. وقد طالت تلك الحملات عدداً كبيراً من السياسيين والمثقّفين والمؤثّرين والوسائل الإعلامية، كان آخرها ما حصل مع المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال "أل بي سي"، بعد تقرير عن الحرب في غزة، فألزموها بحذفه.
 
وفي هذا الإطار، يرى المرصد الأورومتوسّطي أن الاستدعاءات والتضييق بسبب الآراء العلنية يُخالف المادَّة (19) من العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة، الذي صادق عليه لبنان في العام 1972، والتي تمنع العقوبات السالبة للحريَّة في القضايا المتّصلة بالحق في حريَّة الرأي والتعبير.
 
ويؤكّد المرصد أنَّهُ لا يجوز للقضاء العسكريّ المتمثِّل بمفوَّض الحكومة لدى المحكمة العسكريَّة بأيّ حال من الأحوال التحقيق مع مدنيين، خاصة أن المحكمة العسكرية في لبنان هي محكمة استثنائية، لا تحترم أدنى ضمانات المحاكمة العادلة، في مخالفة أخرى للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
 
ودعا المرصد الحقوقي الحكومة اللبنانية إلى وضع حدّ للمضايقات المستمرّة والمتصاعدة بحقّ نشطاء الرأي، وإلى إلغاء النصوص القانونية التي تنتهك الضمانات الدستورية والتزامات الدولة الدولية المتّصلة بالحقوق والحريات العامة.
 
بدوره، يقول الباحث والأستاذ الجامعي مكرم رباح لـ"النهار" إن "الحالة التي وصلنا إليها اليوم من القمع أسوأ و"أغبى" من مرحلة النظام الأمني اللبناني - السوري، لأن القضاة الذين كانوا في السلك القضائي ضمن المنظومة السورية لم يستعملوا يوماً هذه الطريقة، فكانوا يلفّقون تهم العمالة جهاراً. أمّا اليوم، فيسألون عن الآراء السياسية، وعلى أساسها يُصنّفون الأشخاص ويتّهمونهم بالعمالة".
 
أضاف: "الحريات في لبنان أهمّ بكثير من أيّ مطلب آخر، وقد يكون هناك اختلاف في وجهات النظر بين الأحزاب في المطالب الإصلاحية، لكن ملف الحرّيات لا مجال للعبث فيه. وبرأيي، حرية التعبير مماثلة للسيادة، وضمن الملف السياديّ الذي ننادي به، لأنّه لا يُمكن بناء وطن إن لم يكن قوامه الأساسي هو العدالة وحريّة التعبير".
 
أما النائب رازي الحاج فيرى في هذه التصرفات وجود رغبة في العودة إلى زمن كمّ الأفواه وحجز الحريات في بلد الحريات، مؤكّداً وقوفه بوجه محاولات النظام الأمني لقمع حرية التعبير والرأي.
وأبدى الحاج تخوّفه من أن تتحول بعض الإدارات الرسمية إلى أداة بيد "حزب الله"، يستخدمها للاقتصاص من كلّ مَن يعارضه، مطالباً بتحرير موقع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية من قبضة "حزب الله".

اقرأ في النهار Premium