باسل العريضي
ليست المرة الأولى التي يتصادف فيها عيدا الفطر والفصح في الوقت عينه، فاللبنانيون اعتادوا منذ قرون التعايش مسلمين ومسيحيين، وبفعل هذا "التزاوج الاجتماعي" باتوا على دراية بطقوس وعادات كل منهما. والمسألة تخطت المجاملات الاجتماعية لتصبح أكثر تفاعلاً وعمقاً بفعل "المصاهرة" التي تجمع آلاف العائلات، وباتت الخريطة الديموغرافية اللبنانية متداخلة والقرى مختلطة الى حدّ لا يمكن فصلها.
وبقي هذا الفصل متعذراً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً إلى حين اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، التي أسست لشرخ وانقسام عميقين في المجتمع اللبناني، وبفعل الهجرة والتهجير فقدت لوحة الموزاييك ألواناً في أجزاء كبيرة منها. ولايمكننا هنا وضع اللائمة كلها على الحرب الأهلية، فهي لم تأتِ من عدم، إذ إن لها أسبابها المتراكمة تاريخياً والتي تفاقمت في فترات معينة بفعل الصراع السياسي على النفوذ، وهذا الأمر كان أحد المداخل الرئيسة للتدخلات الخارجية.
بالتأكيد المسألة ليست بهذه البساطة، فالجغرافيا لها وزنها في لعبة الأمم، وموقع لبنان على خريطة الشرق الأوسط الملتهب منذ الأزل بحروب الإمبراطوريات والممالك، جعله ولّاداً لأزمات مختلفة كرسّت الانقسامات الداخلية.
وفي كلّ مرة كانت الحلول تأتي على شاكلة تسويات إقليمية – دولية بنكهة محلية لاسيما منذ القرن التاسع عشر. وهنا لن ندخل في أسباب قيام القائمقاميتين أو المتصرفية أو حتى نشوء لبنان الكبير، فالبحث طويل وسرده أكثر تعقيداً من ذكره في مقال واحد.
مظاهر الانقسام المستشري في يومنا هذا، تظهر تقريباً في كل شيء. في السياسة لا يوجد ملف إلّا ونال قسطه من السجال والمواقف المتباعدة حيناً والمتناقضة أحياناً أخرى، والحلول لم ترسُ يوماً إلّا على شواطئ التفاهمات.
وهذه التفاهمات تأتي تحت مظلة ما يسمى بـ"الديموقراطية التوافقية" أي أن تتوافق كلّ الأطراف التي تمثل المذاهب المختلفة على صيغة الحلّ.
في المظاهر الاجتماعية، لاسيما في زمن الأعياد، ينبعث النقاش مجدداً عند كلّ "استحقاق" عن "لبنانين اثنين" فكيف الحال عندما يتزامن ذلك مع حرب دموية؟
ثمة ظاهرة أن هناك "لبنان" يمضي أيام العطلة بالسهر والاستجمام... ولبنان آخر يعيش تحت وطأة الحرب والقهر والأزمة الاقتصادية... والسجال هنا بطبيعة الواقع اللبناني لا تنفصل عن السياسة، وهي بالمناسبة إحدى ميزات "المطبخ اللبناني" وأبرز هوايات اللبنانيين، فكلما اجتمع اثنان كانت السياسة ثالثهما.
المشهد اللبناني هذا، صوره الفنان زياد الرحباني في أحد أعماله المسرحية قبل نحو أربعين عاماً بـ"شي فاشل" عندما يأتي "أبو الزلف" (مثل الشخصية الراحل زياد أبو عبسي) من التاريخ ويقول في إحدى جمله "بالعدس في طائفية، بس مش قد البرغل...". هذه الكوميديا السوداء عكست حدّة الانقسام الطائفي والمذهبي الذي بلغ النخاع، وكل حالة الإنكار لها لم تعد قادرة على طمسها.
بعد "شي فاشل" بعقد من الزمن تقريباً، خرجت الأطراف اللبنانية بتسوية سياسية في ما يُعرف بـ"اتفاق الطائف" وكان من المفترض أن يكون خاتمة الأحزان عند الشعوب اللبنانية المتحاربة، ويؤسس لبناء جمهورية ثانية ينعم أهلها بالاستقرار والعيش المشترك، مع إصدار محدّث للديموقراطية التوافقية.
إنما حسابات البيدر اللبناني اختلفت عن حسابات الحقل، ولدت الجمهورية الثانية لكنها حملت معها إرث الأولى بكل خطاياها وأضافت عليها وزر مخلّفات الحرب الأهلية.
وما يدعو للتوقف عنده، هو هذا التحوّل في صيغة العيش اللبناني، فبدلاً من القيام بمراجعة تاريخية عميقة لأسباب الأزمة اللبنانية ومعالجتها جذرياً، فقد كُرّس الانقسام أكثر قسوة في النفوس والنصوص، وكأن لغة المدافع وخطوط التماس لا تزال تتحكم بمصائر العباد.
في كتابه "لبنان بين الأمس والغد" يشير القاضي نواف سلام إلى أن دراسة أجريت في لبنان، قبل الحرب الأهلية، بيّنت أن نسبة الأشخاص الذين يرتادون دور العبادة ممن تقل أعمارهم عن 30 سنة تتراوح بين 2 و5 في المئة فقط، ما يؤكد أن الطوائف تُخضع العنصر الديني الذي كان أساس نشأتها، لأهداف زمنية ومصالح سياسية لبسط هيمنتها.
وفي الكتاب عينه، يخرج سلام في إحدى الدراسات بخلاصة، أن ما يحرك الطائفية ليس المعتقد الديني الذي تأسست عليه، إنما أضحت نوعاً من العصبية بحسب النموذج القبلي الذي يتحدث عنه ابن خلدون في مقدمته.
بالتوازي مع نظرة سلام، نجد أن رجل القانون الفرنسي موريس دوفرجيه، يرى أن ما دام رؤساء الأحزاب السياسية هم الذين يختارون المرشحين للانتخابات فسيظلون هم المسيطرين على توجهات هؤلاء النواب. وهذا ينطبق على شقّ آخر في الحياة السياسية اللبنانية.
إن كان "الطائف" وجد، بعد خمسة عشر عاماً من الاقتتال والدمار، لإجراء إصلاحات تنأى بهذا "الكيان المهزوز" عن ويلات حروب إضافية وأثمان تكلفه علّة وجوده، فإن "النموذج القبلي" لايزال له كلمة الفصل. وما نشهده في يومياتنا من انقاسامات، لم يكن ينقصها إلّا وسائل التواصل الاجتماعي، سوى دليل قاطع على عمق القبلية الطائفية على حساب الوطنية الجامعة.
ومن الشواهد التاريخية، أن رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب، استقدم بعثة مخصصة لدراسة أوضاع لبنان، فكانت النتيجة أن لبنان مشكلته في "أنانية النخب الحاكمة" التي أطلق عليها شهاب اسم "أكلة الجبنة"، وكان يرى أن الطائفية في لبنان ليست "موقفاً"، بل هي "سلعة" يُتاجر بها خدمة للحسابات السياسية والاقتصادية.
بعد أكثر من ثلاثة عقود على إقراره، فشل اتفاق اللبنانيين في الطائف بتأسيس جمهورية متكاملة المعالم والركائز، وإن كان البحث جارياً عن جمهورية ثالثة ولو مقنّعة، فالأجدى أن يكون أول أركانها تطوير ركائز إصلاحات "وثيقة الوفاق الوطني".