وصل التشنّج الطائفيّ والسياسيّ الداخليّ إلى مستويات متقدّمة جداً، وشهد لبنان حروباً أهلية مصغّرة كثيرة متنقّلة في السنوات السابقة، من خلدة مروراً بالطيّونة وصولاً إلى الكحالة، وتزامن ذلك مؤخّراً مع مشهديّة سياسية معقّدة يحكمها انقسام عمودي حادّ بين فريقين أساسيين، الأول "حزب الله" وحلفاؤه، والثاني "القوات اللبنانية" وحلفاؤها.
التشنّج الطائفي والانقسام السياسي يترافقان مع شلل مؤسساتي تام، فالفراغ يستحكم في رئاسة الجمهورية والحكومة في حالة تصريف أعمال، أمّا المؤسسات الأمنية، فباتت محكومة من قبل قوى الأمر الواقع في عدد من المناطق، وغير قادرة على احتواء الفوضى القائمة، فتفلّت الأمن أكثر، وبشكل خاصّ شمالاً وبقاعاً، وباتت السلطة للأحزاب والعصابات لا المؤسّسات.
إلى جانب غياب المؤسسات والانقسام المذهبي الذي وصل إلى مراحل خطيرة تتمثّل بذهنية الإلغاء والتقسيم ورفض صيغة العيش المشترك وفرض القرار بسلطة السلاح وفائض القوّة، فإنّ ثمّة عاملين خطيرين يُفاقمان الوضع، الأوّل وجود النزوح السوريّ بكثافة، والثاني تفلّت العصابات وانتشار السلاح بين اللبنانيين بكثرة.
يتّجه بعض المراقبين إلى تشبيه الوضع اليوم بمرحلة ما قبل الحرب الأهلية، وبشكل خاصّ بين العامين 1969 و1975، حينما كان التوتّر الطائفيّ على أشدّه بين الموارنة والسنّة والدروز والفلسطينيين، والسباق على السلطة محموماً، وكانت عمليات التسليح نشطة في تلك الفترة، وكان العامل الأجنبيّ موجوداً متمثلاً بالوجود الفلسطيني المسلّح في المخيمات.
ويقول المراقبون إنّ الفوضى الأمنية التي حصلت في الأيام الأخيرة، من قتل القيادي القوّاتيّ باسكال سليمان مروراً بالاعتداء على السوريين، إلى استدراج الصرّاف محمّد سرور وقتله في بيت مري، والفوضى التي حصلت سابقاً في الأحداث المذكورة سلفاً وغيرها، قد تكون مؤشّرات على تحمية الشارع حتّى لحظة الانفجار التي قد لا تكون قريبة، لكنّها تحتاج إلى أرضية خصبة.
إلّا أنّ آخرين يستبعدون تكرار تجربة العام 1975 والحرب الأهلية لأسباب متعدّدة، على رأسها غياب القرار الدوليّ بتفجير لبنان، لأنّ الحرب تحتاج إلى قرار خارجي وتسليح، وهذا الأمر غير متوافر، ومستوى القرار الدولي يقف عند حدود الإبقاء على حالة عدم الاستقرار مع تمكين النازحين وتغذية الانقسامات، ثمّ أنّ التسليح الجدّيّ لا زال محصوراً بـ"حزب الله" دون سواه.
سلطان: الوضع خطير... والعلاج موجود
القيادي السابق في الحركة الوطنية توفيق سلطان الذي عايش فصول الحرب الأهلية عن قرب، يرى أنّ "الوضع خطير جداً، والبلاد في حالة تفخيخ طائفي منذ انتهاء الانتداب الفرنسي، ورغم مُحاولات إصلاح الوضع في اتفاق الطائف، إلّا أنّ الحال بقي هشّاً، وتتغذّى بذور الانقسامات والفتنة بقانون انتخابي طائفي من هنا، وبأحداث واقتتالات مذهبية متنقّلة من هناك".
وفي حديث لـ"النهار"، يعتبر سلطان أنّ الأخطر يكمن في ترافق الانقسام المذهبي والتفلّت الأمنيّ الحاصل مع غياب تامّ لمؤسسات الدولة، وبرأيه، لا يُمكن الاعتماد على وعي المواطن وانتمائه لتجنيب لبنان سيناريوهات الحرب، بل إنّ ذلك يستوجب وجود دولة قوية بمؤسساتها، لكنّ بعض السياسيين لا يُريدون قيامة دولة وبناء مؤسسات.
وفي هذا السياق، لا بد من التطرّق إلى سلاح "حزب الله" من جهة والفساد المستشري من جهة أخرى، ويرى محللون سياسيون أنّ ثمّة تقاطعاً بين استشراء الفساد وسلاح الحزب، لأنّ الأخير لا يُمكن أن يستمرّ في ظلّ دولة مؤسسات قوية، ولا يُمكن أن يكون ثمّة قراران للسلم والحرب في دولة واحدة. والانقسام الحاصل حول هذه القضية جذريّ وعميق.
أمّا وعن الوجود السوري، وبرأي سلطان، فإنّ لبنان ضحية مؤامرة دولية، فالعرب تركوا لبنان لمصيره، والأميركيون إلى جانب الأوروبيين يُحيكون مؤامرة من خلال إصرارهم على بقاء السوريين في لبنان وتمويل وجودهم بدل العمل على إيجاد الحلول الفعلية، وواقع النزوح السوريّ مُخيف لأنّه يُمثّل قنبلة موقوتة، وهو وضع أخطر من حال الجبهة على الجنوب بين "حزب الله" وإسرائيل.
إلّا أنّ سلطان لا يرى أيّ جهة خارجيّة مستعدّة لتمويل وتسليح أيّ طرف في وجه "حزب الله"، لكنّه لا ينسى وجود مشاريع إسرائيلية فتنويّة للبنان، لأنّ التجربة اللبنانية القائمة على فكرة تعايش مكوّنات مع بعضها تُناقض فكرة إسرائيل كدولة دينية، ونجاح الفكرة اللبنانية على حساب الفكرة الإسرائيلية خطر على الأخيرة، وبالتالي فإنّ مساعي الفتنة لا تتوقّف.
ويُشدّد سلطان على وجوب تقديم الأطراف السياسية التنازلات، ويُذكّر بالحرب الأهلية ليقول إنّ رفض التنازلات حينها أدّى إلى تنازلات أضخم لسوريا في ما بعد، وبالتالي يتوجب على القادة السياسيين تفادي الحرب من خلال التنازل، مشيراً إلى أنّ في إمكان لبنان الضغط على المجتمع الدوليّ كما تمكّنت "حماس" من إقناعه جزئيّاً بقضيّتها ضدّ إسرائيل.
بقرادوني: لا حرب أهليّة لهذه الأسباب
من جهته، المحامي والخبير السياسي كريم بقرادوني لا يرى حرباً أهلية في لبنان، وبرأيه، فإنّ الظروف مغايرة لما كانت عليه قبل العام 1975، فالقادة تبدّلت وخياراتها كذلك، وظروف الدول المُحيطة أيضاً، ففي حين كانت تحكمها أنظمة أحادية باتت تعيش الثورات والتغيير في الأنظمة، ثمّ أنّ صراع الإيديولوجيّات بين اشتراكية وليبرالية انتهى لصالح القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا الصدد، لا بدّ من التذكير بأنّ الحرب الأهلية اللبنانية تزامنت مع صراع أيديولوجيّ محتدم كوجه للحرب الباردة، بين الفكر الاشتراكي الشيوعي والفكر الليبرالي، وبين أفكار عروبية ناصرية وأخرى أقرب إلى الغرب، في حين أنّ المشاريع اليوم اقتصادية، من الصين إلى السعودية، وهذه المشاريع تحتاج إلى استقرار لا حروب.
وفي حديث لـ"النهار"، يلفت بقرادوني الذي عاش تفاصيل الحرب من موقعه في الجبهة اللبنانية حينها، إلى أنّ فكرة التصادم غير قابلة للتطبيق في لبنان، وما من طرف قادر على التصادم مع الآخر بشكل كامل، وحرب غزّة أثبتت هذا الواقع، إذ ورغم اجتياح إسرائيل للقطاع، إلّا أنّها فشلت في احتلاله وإنهاء حركة "حماس"، ثمّ أنّ نوعيّة الصدامات تبدّلت مع دخول إيران إلى مشهديّة المنطقة، ومن المعروف أنّ إيران لا تتصادم ولا تأخذ المخاطر.
وبرأي بقرادوني، التاريخ لا يُكرّر نفسه لأنّ الظروف وطريقة مقاربتها في تبدّل مستمرّ، والانقسامات الحاصلة في لبنان لا تؤدّي إلى حرب أهلية، ورغم المواقف المتناقضة من سلاح "حزب الله"، فإنّ صيغاً عدّة وُجدت لاستيعاب هذا السلاح ودوره، ثمّ أنّ السلاح لا يمنع الإصلاح ولا يُبرّر غياب مؤسّسات الدولة، بحسب بقرادوني. وهو الرأي الذي تخالفه شريحة سياسية وشعبية واسعة في لبنان، تجد أنّ السلاح يقوّض الإصلاح لأنّه يميّز بين المناطق والمواطنين.
في المحصّلة، فإنّ لبنان على فوهة انفجار فتنويّ، والمسار الحاليّ لا يؤدّي سوى لتفاقم الأزمة وتصاعد حدّة التشنّج، والاستمرار في شلّ المؤسّسات وتعزيز الانقسامات السياسية والطائفية سيعمّق من حجم المشكلة، في حين أنّ التهدئة تمكن في إيجاد حلول جذرية لأزمات وجودية، كالنازحين السوريين، وسلاح "حزب الله" وعجز المؤسّسات الحكوميّة.