يمكن تشريح النظر إلى القضاء راهناً من منظارَين، منظار مقاربة الملفات الجزائية الكبيرة وتداعيات ارتداداتها على القضاء كدعاوى تتصل بالفساد بعد كلّ ما أثير من خارج جدرانه من سقوف عالية، ولم يصل منها إلى القضاء إلّا القليل. وما وصل لا يزال يراوح. فملفّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في سبات أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز المتوقّفة عن العمل، وملفّ مسؤولين أمنيين سابقين في الجيش الذي جرى تفريع كلّ ملفّ منه على حدة، يستقرّ على انتظار نتائج الدفوع الشكلية التي أثارت في الغالب مسألة مرور الزمن على الجرائم المدّعى بها.
وفي التوازي ما شهده ملفّ انفجار المرفأ من عقبات سابقاً حالت حتى الساعة دون إعادة انطلاقه بعد التطورات التي بلغت الذروة في العام الماضي، ناقلة الضغوط السياسية إلى داخل قصر العدل، ما وضع هذا الملفّ في الثلاجة، ثمّ انبعاث بوادر إيجابية أخيراً لتحريكه غداة تكليف النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار على رأس النيابة العامة التمييزية ولقائه قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار في إطار إعادة الوصل بين التحقيق العدلي والنيابة العامة التمييزية.
والرهان "على بعض الوقت في هذه المحاولة الجدّية" وفق مصادر قضائية مطلعة. هذا الملفّ الذي أخذه القاضي بيطار على عاتقه، وتصميمه على متابعته إلى خواتيمه كمحقّق عدليّ، على ما بدا من عودته أخيراً إلى مكتبه في قصر العدل واجتماعه بالنائب العام التمييزيّ، وما تناهى عن هذا الاجتماع من مصادر الأخير عن إيجابية اللقاء، لا شكّ في أنّ هذا الملفّ هو أحد التحديات التي تواجه القاضي الحجار في منصبه في الوضع غير المستقرّ في البلاد اقتصادياً وسياسياً.
أمّا المنظار الآخر في القضاء، فهو عملية الفصل بين الملفات الساخنة وتلك العادية التي ركّز عليها مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي سهيل عبود، وحقّقت خطوات إيجابية، إذ تجري متابعة النظر في الملفّات العادية في الدوائر والمحاكم في بيروت وسائر المحافظات رغم الظروف العامة غير الطبيعية. ويشير إحصاء رسمي إلى أنّ مجموع الأحكام المدنية والجزائية في العام القضائي المنصرم 2023 بلغ 41 ألفاً و508 أحكام، تلك الجزائية منها بلغت 20 ألفاً و75 حكماً، توزّعت 4902 منها في بيروت، و3416 في جبل لبنان، و9027 في الشمال، و740 في الجنوب، و1990 في النبطية، فيما توزّعت الأحكام المدنية الـ41 ألفاً و386 حكماً على 3659 في بيروت، و2680 في جبل لبنان، و5679 في الشمال، و780 في الجنوب، و1558 في النبطية.
في المقابل ساعد توزيع 69 قاضياً جديداً كانت قد صدرت مراسيم تعيينهم قضاة أصيلين بعد تخرّجهم من معهد الدروس القضائية، في قصور العدل في بيروت وسائر المحافظات في ضخّ دم جديد من عنصر الشباب في القضاء. لقد عُيّنوا بالانتداب بالتوافق بين وزير العدل هنري خوري ومجلس القضاء، وباشروا أعمالهم في مراكزهم الجديدة في القضاء المنفرد ومستشارين في محاكم الاستئناف.
وهذا لا يعني أنّ القضاة يعملون في مكاتبهم وعلى الأقواس بارتياح. فالأزمة الاقتصادية طاولت جميع شرائح المجتمع ومنهم القضاة، ولا سيّما الجناح الآخر من العدالة، المحامون الذين يعانون الأمرّين في الغالب من مخالبها. فهم يتابعون ملفّات موكّليهم بشقّ النفس في قصور العدل حيث بيتهم المهنيّ، بعدما صرفوا الأعوام في التحصيل والمرور بمرحلتَي التدرّج والاستئناف وتراكم أعوام الخبرة مجاهدين إلى جانب ضفّة القضاة إزاء أزمة مصيرية مستفحلة تطاول مهنة المحاماة المرتبطة عضوياً بمؤسسة القضاء التي إن كانت بخير فستنعكس على المحامين، والعكس صحيح. فكيف مع الأزمة الاقتصادية التي طاولت الجناحين في ظروف عمل صعبة ومشكلة اكتظاظ في السجون. فإن حضر المحامي إلى الجلسة يتعذّر سوق موكّله من السجن إلى قصر العدل لتُرجَأ إلى موعد لاحق بسبب عدم انتظام العمل في بلد منكوب، بحيث بلغت ارتدادات الأزمة حدّ إقفال مكاتب بعض المحامين وهجرتهم وعائلاتهم. وفي الضفة الأخرى استقالة قضاة وافق مجلس القضاء عليها أخيراً لدواع اقتصادية، وفق معطيات قضائيّة.
من جهته يبذل نقيب المحامين في بيروت فادي مصري أكثر من المستطاع في غير تحرّك واتّجاه لإحاطة عائلة المحامين وفي ذهنه التصميم على العمل في سبيل المحامي ومهنته. ويتابع حثيثاً خطة الطوارئ القضائية التي وضعها لإحياء عقد الجلسات للنظر في ملفّات الموقوفين في نطاق جبل لبنان في محكمة رومية. وفي إطار برنامجه التقى النقيب مصري القاضي عبّود الذي أبدى موافقته على ما ترتئيه النقابة، وكذلك وزير العدل.
الجلسات في محكمة رومية كانت توقّفت قبل حوالى عامين بناءً على طلب المحامين، نظراً إلى الصعوبات التي كانوا يواجهونها نتيجة الإجراءات الأمنية المشدّدة المتّخذة عند المدخل الرئيسي لسجن رومية وصولاً إلى قاعة المحكمة سيراً. وفي السياق ستكون محطة نقيب المحامين التالية عند وزير الداخلية بسّام مولوي بعد عطلة عيد الفطر، باعتبار أنّ التجاوب مع هذه الخطة من شأنه التخفيف من مشكلة الاكتظاظ، وبتّ المحامين ملفّات موكّليهم الموقوفين.
وأفادت مصادر نقابية أنّ النقيب مصري يتطلّع من وراء تحقّق هذه الخطة إلى "تأمين معالجة موضوع الاكتظاظ في السجون من خلال تسريع الملفّات القضائية ما يعود بالفائدة على عمل المحامين وطي ملفّات موكّليهم. لذا تأتي خطوته التالية من خلال البحث مع وزير الداخلية مسألة الإجراءات الخاصّة بالمحامين لتسهّل هذه المحكمة عملهم إذا ما تقرّر إجراء المحاكمات فيها".