تُجمع التحقيقات الأولية على ترجيح فرضية تنفيذ الموساد الإسرائيلي عملية اغتيال الصرّاف محمد سرور، خصوصاً وأن للأخير صلات مالية مع "حماس" وفصائل فلسطينية في غزّة وهو مُدرج على لوائح العقوبات الأميركية، ما فتح الباب على مدى قدرة هذا الجهاز الاستخباراتي على التحرّك في لبنان والقيام بعمليات أمنية. مع العلم أن خبراء عسكريين لم يستبعدوا وقوف جهات أخرى محلية وراء عملية الاغتيال.
وفي هذا الإطار، كان طرح الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية العميد خالد حمادة عدداً من الأسئلة: "كيف يتوجه شخص مطلوب لجهات دولية مثل سرور إلى منطقة خارج نطاق "حزب الله" الأمني بشكل فردي من دون مرافقة ويقصد منزلاً لا يثق بسكّانه ليصرف مبلغاً من المال؟ شخص بحجم سرور، لماذا لم يُبلّغ عن مقتله إلّا بعد أيام؟ وشخص بدور سرور كصرّاف مالي لـ"حزب الله" و"حماس" لماذا يقوم بعمليات صغيرة وشخصية؟ المنطقة مليئة بالكاميرات التي رصدت دخول سرور، فلماذا لم تضبط وجوه القتلة أثناء خروجهم من المنزل؟".
ويضيف حمادة: "إن الموساد قد لا يكون الجهة المخطّطة والمنفّذة للعملية، بل جهات أخرى لها مصلحة في تصفية سرور، خصوصاً وأنّه بات "ورقة محروقة" بسبب العقوبات وتقييد دوره المالي بين "حزب الله" و"حماس"، إلّا أنّه يمتلك معلومات مهمّة قد تفضي إلى كشف شبكات مالية في حال تم القبض عليه من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة، وقد يكون "حزب الله" نفسه أو جهات محلية أخرى خلف العملية".
لكن بالعودة إلى فرضية تنفيذ الموساد العملية، وإن صحت هذه الفرضية، فالأكيد أنها ليست العملية الأولى لهذا الجهاز الإسرائيلي في لبنان، بل سبقها عمليات عدّة، وشهدت حقبات تاريخية، أبرزها مرحلة الحرب الأهلية، نشاطاً لافتاً للموساد، حينما كان يستهدف قيادات منظمة التحرير الفلسطينية أو يسعى لجمع معلومات عن نشاط حركة "فتح" العسكري وحلفائها، ما يُشير إلى أن للموساد خبرة واسعة في التعامل مع الملف اللبناني.
من المعلوم أن الموساد الإسرائيلي يندرج على لائحة أبرز الأجهزة الاستخباراتية في العالم، انطلاقاً من قدراته وعملياته النوعية التي نفذها خارج إسرائيل، وقد يكون خرقه للطبقة السياسية السورية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية عبر عميله إيلي كوهين أبرز هذه العمليات، إلى جانب اغتيالات طالت قادة وناشطين عسكريين وسياسيين وعلماء وأدباء.
بالعودة إلى الميدان اللبناني، كان للموساد سلسلة من العمليات النوعية، أبرزها:
في العام 1972، اغتالت إسرائيل الأديب الفلسطيني غسان كنفاني بسيارة مفخّخة في بيروت، على خلفية مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية ضد إسرائيل، وقدرته الواسعة على التأثير على الرأي العام.
وفي العام 1973، اغتالت قوات كومندوس إسرائيلية القياديين الفلسطينيين كمال عدوان ومحمد يوسف النجّار وكمال ناصر بعدما جمع الموساد معلومات عنهم، وشارك رئيس الوزراء السابق إيهود باراك في العملية حين كان ضابطاً في الجيش، وتنكّر مع مساعده بثياب امرأة، فيما لبس الجنود الإسرائيليون الآخرون ملابس مدنية لتجنّب كشفهم.
وفي العام 1979، وبعد مغادرة القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية "الأمير الأحمر" علي حسن سلامة منزل زوجته جورجينا في بيروت، انفجرت سيارة فخخها عملاء الموساد في الطريق أثناء عبور سيارته، فأصيب إصابة بالغة نقل على إثرها إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث فارق الحياة.
لكنّ السؤال الأبرز، كيف تكون للموساد حرية الحركة في لبنان في ظل وجود أجهزة الاستخبارات الشرعية التابعة للدولة اللبنانية، وجهاز الاستخبارات غير الشرعي التابع لـ"حزب الله".
كيف يعمل الموساد في لبنان؟
حمادة يتحدّث عن الموساد وعمل الأجهزة الاستخباراتية، ويُشير إلى أن "مهمة الأجهزة الأمنية خدمة الأهداف السياسية التي تصب في مصلحة دولتها، وذلك من خلال المتابعة وجمع المعلومات وصولاً إلى تنفيذ العملية المطلوبة، والتي لا تتوقف على العمليات الأمنية ومنها الاغتيالات، بل تشمل مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، إلى جانب التدخّل بالانتخابات مثلاً".
وفي هذا الصدد، فإن العديد من زعماء العالم، على رأسهم رؤساء ومسؤولو دول كبرى كالولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، يتهمون أجهزة مخابرات أجنبية بالتدخّل في الانتخابات للتأثير بهدف تبديل النتائج، وليس آخرها اتهام موسكو لجهاز الـCIA بالتدخّل في انتخاباتها، والاتهام المُضاد من واشنطن ضد المخابرات الروسية على خلفيات خروقات مشابهة.
وفي حديث لـ"النهار"، يتعمّق حمادة في المهمات الخارجية لأجهزة الاستخبارات، ويقول إن "جمع المعلومات يحصل من خلال عملاء رسميين تابعين للجهاز، أو حتى من قبل متعاملين لا يعرفون أنهم يعملون لمصلحة جهاز استخباراتي، كتوظيف مصوّرين في شركات وهمية لجمع لقطات عن مواقع مطلوبة، بالإضافة إلى التنسيق مع أجهزة أمنية أخرى بدافع تقاطع المصالح، بالإضافة إلى التواصل مع شخصيات مهمّة".
الكثير من الملفات المشابهة حصلت في لبنان، فكانت شولا كوهين أشهر العميلات الإسرائيليات، ومن المعروف أن أجهزة المخابرات تلجأ إلى النساء كونهنّ بعيدات عن دائرة الشكوك، ويتمكّنّ من الوصول إلى المعلومات بشكل أسرع من خلال الإغراءات، ثمّ أن العديد من اللبنانيين تمّت ملاحقتهم واتهامهم بالتعامل مع إسرائيل، بعد إرسال صور ومعلومات ظنّاً منهم أنهم يعملون لشركات تجارية.
أمّا وبالنسبة للتنفيذ، فيشدّد حمادة على وجوب الفصل بين الجهاز المخطّط للعملية والجهة المنفّذة، "إذ قد يكون الطرفان مختلفَين، فقد يخطّط الجهاز الاستخباراتي للعملية لكنّ المنفّذ قد يكون عنصراً تابعاً للجهاز، أو متعاملاً معه أو من جهاز عسكري آخر تابع للدولة نفسها، وذلك وفقاً لطبيعة المهمّة أو من أجهزة أمنية وعسكرية أخرى تابعة لدول أخرى لها مصلحة في تنفيذ العملية".
ويُتابع في هذا السياق: "جهاز الـCIA خطّط لاغتيال زعيم القاعدة أسامة بن لادن لكن قوات أميركية خاصة نفّذت العملية، الموساد الإسرائيلي خطّط لاغتيال العديد من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بالإضافة إلى شخصيات سياسية، لكن قوات كومندوس إسرائيلية نفّذت هذه العمليات، الموساد خطّط لاغتيال كنفاني والمخابرات اللبنانية حينها لم تكن مهتمة في حفظ أمنه لأسباب سياسية".
خرق الساحة اللبنانية يُعد أسهل نسبياً مقارنة بساحات أخرى، وذلك لأسباب عديدة، منها محدودية قدرات الأجهزة الأمنية المحلية وفوضوية تنظيمها وفصل ملفاتها، بالإضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة بشكل عام ووجود أكثر من مليوني ونصف أجنبي بين نازحين ولاجئين وعمّال.
وفي ما يتعلّق بنشاط الموساد في لبنان، فإن حمادة يتوقف عند عوامل تجعل البلاد سهلة الاختراق، "إذ ثمّة أربعة أجهزة مخابراتية، مخابرات الجيش، شعبة المعلومات، أمن الدولة والأمن العام، لكنها لا تتبادل المعلومات في ما بينها ولا تعمل وفق ما يُسمّى بـ"وحدة المهمة"، وثم أن نطاق عمل كل جهاز غير محدّد، وبالتالي فإن فشل لبنان في صوغ رؤية أمنية موحّدة يسهّل عمليات الاختراق".
ويُضيف في السياق نفسه: "ان اعتماد اللامركزية سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ هو عامل أساس في نجاح الجهاز الاستخباراتي، فالمخابرات تفصل بين المخطّط والمنفّذ، وتفصل شبكات التنفيذ عن بعضها حتى لا تُكشف هويتها أثناء القيام بعملية في حال تمّ القبض على أيّ عنصر من العناصر، بالإضافة إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لجمع المعلومات وتنفيذ عمليات".
إذاً، فإن لبنان ساحة مفتوحة لأجهزة المخابرات على تعدّدها، ويرى مراقبون أن الموساد ليس اللاعب الوحيد في لبنان، بل إن المخابرات الأميركية والبريطانية والفرنسية وحتى السورية والإيرانية نشطة وقادرة على التحرّك وتنفيذ العمليات وحتى التأثير على السياسة والاقتصاد والتحركات الشعبية، ورحلة إصلاح هذا الواقع تبدأ من حصر قرار الدولة بمؤسساتها الحكومية قبل كلّ شيء.