يمكن لأيّ متابع في المدة الأخيرة أن يلاحظ حركية سياسية لافتة على مستوى "التيار الوطني الحر"، فقد تزامنت التسريبات عن عمليات طرد ومحاسبة لنواب من التكتل وأعضاء فاعلين فيه، مع حركة سياسية انفتاحية على عدد من الأطراف السياسيين ممّن خاض ضدّهم باسيل معارك سياسية تحت ذريعة مواجهة الإقطاع والقضاء عليه.
يكمل باسيل معركته السياسية بملف رئاسة الجمهورية، تحت شعار القبول بأيّ كان إلّا سليمان فرنجية، ويستمرّ في معركته الناعمة مع "حزب الله" ضمن سقف رفض الحرب، من دون الذهاب بالملف إلى النهاية، بالإضافة إلى الملفّ الشعبوي المتصدّر حاليّاً ويعتبر اجماعياً بدون منازع لدى العونيين وهو ملفّ النزوح السوري، مع عودة سياسة الانفتاح على الخارج وخصوصاً دول الخليج والمملكة العربية السعودية بالذات بعد قطيعة طويلة.
الملفات الحالية هي مدار اجماع بين "التياريين" وليس هناك خلافات عليها سوى بعض الأصوات القليلة والضعيفة وغير المؤثرة وغير الراضية عن الموقف مع "حزب الله" وتريد الالتحام معه من جديد، إنّما بالتوازي مع هذه الملفات، هناك عمل داخلي كبير قام به باسيل وهو ما افتتح به ولايته الرئاسية الثالثة بتعيين ناجي حايك نائباً للرئيس للشؤون الخارجية، وهو ما اعتبر تغييراً كبيراً لكنّه أعاد تياراً كبيراً ضمن "التيار" إلى الفعالية وهو التيار "البشيريّ" الذي ابتعد منذ سنوات طويلة واليوم عاد ليتصدّر الصفوف.
الصدمة بتعيين حايك داخلياً ترافقت مع عدد من الخطوات التنظيمية الأخرى، ولكن على مدى متدرّج ومتباعد، فقام بحملة تعيينات وتشكيلات على المستويين الثالث والرابع في الحزب (مناطق، أقضية، مصالح مستقلّة، بلديات) زرع فيها الموالين الصلبين، لينتقل بعدها إلى أعلى، بالنسبة إلى المجلس السياسي والمركزي وصولاً إلى الكتلة النيابية نفسها، وأصبح من المعلوم أنّ الانتخابات التي جرت على مستوى المجلس المركزي أدّت إلى فوز المقرّبين من باسيل جميعهم.
ويبدو أنّه وصل الأخيرة وهي المرحلة الأصعب، وهي ضبط التكتل النيابي وإبعاد الأصوات المعترضة، فكانت الخطوة الأكبر مع نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب. وإذا كانت هذه الخطوة لم تؤدّ إلى خضّة كبيرة نتيجة التمهيد الطويل لهذا الأمر، (منذ بداية ولاية باسيل وتعيين أورثوذكسي متنيّ نائباً للرئيس)، فإنّ ما يجري حالياً مع النائب آلان عون يكاد يكون الأخطر، نتيجة لعوامل عدّة أهمها تاريخ آلان عون بالإضافة إلى حضوره على المستوى الحزبي الكبير وحركيّته النيابية، ووجوده كمرشح دائم لرئاسة التيار، وهو بوضع مختلف عمّا سبقه، إلّا أنّ هذه الاعتبارات جميعها لن تقف في وجه باسيل، الذي يبدو مستمرّاً بغطاء كامل من رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون، وهذا يبدو واضحاً من خلال تسريب القرار المتّخذ في حقّ ألان عون من مجلس الحكماء الذي يرأسه عون بنفسه، وإذا بقيت الأمور على هذا النحو واستطاع باسيل تجاوز العقبة الأكبر فإنّ كلّ ما سيأتي بعدها سيكون أسهل بالمطلق وسيفتح "أوتوستراداً" للسيطرة الكاملة الطويلة، ولو طال عدد من النواب الآخرين، فما يتمتّع به ألان أكبر بكثير من الباقين.
العمل والمعركة المتشدّدة في الداخل، يوازيها حراك مختلف في خارج "التيار"، فقد قام باسيل بحركة انفتاحية ضخمة على عدد من القوى السياسية بدءاً من الخصم الأكبر رئيس مجلس النواب، ونجحت خطوة تبادل الخدمات الأولى (نقابة المهندسين مقابل التمديد للبلديات والجلسات التشريعية)، ورافقها بعدد من الخطوات تحتسب في السياسة وهي باتّجاه العائلات السياسية أو ما يسمّيها العماد عون عائلات الإقطاع، ففُتحت أبواب البترون أمام نائب رئيس الحكومة الأسبق الياس المرّ، وميريام الياس سكاف، وشقيقها ملحم طوق الذي فضّل فرنجية عليه في الانتخابات، بالإضافة إلى النائب السابق سيزار المعلوف، وفاجأ الجميع من جزين من دارة إبراهيم عازار الذي خاض بوجهه وبوجه والده أقسى المعارك ليعود ويدخل جزّين من دارته اعترافاً بدوره وحضوره بعد ما جردته المدينة من التمثيل السياسيّ في البرلمان.
ووفق ما علمت "النهار" أنّ الأسابيع المقبلة ستشهد لقاءات أخرى مع شخصيات سياسية أخرى كانت منذ أشهر بعيدة جدّاً عن "التيار"، وفي المرحلة الثانية ستكون باتّجاه شخصيات من طوائف مختلفة أيضاً كانت بعيدة عن "التيار"، وهذا الأمر أيضاً سيترافق مع توجّه إعلاميّ جديد وشامل وأوسع، وهو ما بدأت بشائره بالظهور بعد المصالحة مع "إم تي في" نهار الخميس الفائت بتسوية لم تخرج أحداً خاسراً، وهذا سيعيد باسيل وفريقه إلى الشاشة الأكثر حضوراً، كما أنّ التيار سينفتح على جميع وسائل الإعلام حتى تلك التي لديه إشكالات معها إيماناً منه بأنّ النهج بحاجة إلى مواكبة، وعدم قدرة "التيار" عبر إعلامه الدخول إلى الساحة الإعلامية بفعالية.
ولا ترى مصادر مقرّبة من "التيار" أنّ ما يقوم به باسيل تحوّل جذري وتردّ السائل إلى مرحلة الـ2005 والـ2009 عندما تحالف العماد عون مع ميشال المرّ والياس سكاف وسليمان فرنجية وغيرهم وهم كانوا في المقلب الآخر، وجميعهم كانوا تحت مظلة تكتل "التغيير والإصلاح" ومن الأطراف المساعدة في الاكتساح الذي حقّقه عون في الشارع المسيحيّ، وحتى بعد الابتعاد عن الشخصيات المذكورة تحالف باسيل مع ميشال معوّض ونعمت افرام وهما من الشخصيات السياسية وأبناء العائلات.
وعن الكلام المستمرّ من التيار عن ضرورة محاربة الإقطاع تشير المصادر إلى اأّه بعد سنوات طويلة جدّاً لم يستطع أحد إلغاءهم واثبتوا أنّ تمثيلهم ليس مصطنعاً وبقوا موجودين ولديهم ناخبوهم وناسهم وهذا ما اثبتته الانتخابات الأخيرة بدءاً من الياس المر، وأصبح استكمال هذه المسيرة يعني الإلغاء، وهذا ما لن نقبله وفي جميع الطوائف ولن نقبل به اليوم.
وعن محاولة تشكيل جبهة مسيحية كتلك التي ظهرت في معراب منذ مدّة، نفت المصادر هذه الأمر، وهي لا تتجاوز عودة "التيار" إلى دوره المحوري بعد "هجمة 17 تشرين"، وهي تأكيد جديد على أنّ التيار ليس معزولاً وليس ضعيفاً في الشارع المسيحي، وبإمكانه بناء شبكة تحالفات قوية ومتينة توازي ما يبنيها غيره.