قلّة هم رجال الدين الذين تعاطوا الشأن العام في لبنان وتميّزوا بالاعتدال ورفعوا شعارات الوحدة الوطنية والعيش المشترك، بعيداً عن تغذية الصراعات الطائفية والمذهبية ومُحاولات الدفاع عن حقوق الطوائف ومصالحها، وقد يكون المفتي حسن خالد أحد أبرز هؤلاء الذين عملوا للمصلحة الوطنية، فاغتالته يد الغدر التي نالت من كبار رجالات لبنان الوطنيين.
وفي الذكرى الخامسة والثلاثين لاستشهادi أثناء خروجه من دار الإفتاء، نستذكر مواقفه الوطنية التي كان سيلجأ إليها اليوم في ظل الانقسامات العمودية الحادة التي تفصل اللبنانيين، ومواقفه العروبية التي أكّدت على عروبة لبنان من دون المساس بسيادته، وإيمانه بالقضايا الإنسانية، وبأن الإنسان يتربع على رأس الأولويات.
رئيس المركز العربي للحوار والدراسات الشيخ عباس الجوهري يستذكر المفتي حسن خالد، ويعتبره "قامة وطنية إسلامية، كان همّه مفهوم الدولة والإنسان، معتدل ومؤمن بالعيش الواحد والتواصل مع الجميع في هذا السبيل، عروبي ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولبنان، وصوت صدح نصرةً لقضايا الإنسان المحقّة".
معلوم أن أصابع الاتهام بالاغتيال توجهت إلى النظام السوري، وذلك لأسباب عدّة جميعها مشتركة بين من اغتالهم هذا النظام، وعلى رأسها الإيمان بلبنان الواحد لجميع أبنائه، رفض الاحتلالات الخارجية، ونبذ الفتن والحروب، وجميعها مبادئ لم تكن تتماشى مع سياسات نظام حافظ وبشار الأسد.
وفي حديث لـ"النهار"، يُشير الجوهري إلى أن "الجهات التي تُريد لبنان مبعثراً وطوائف متقاتلة لا ترتاح لوجود شخصيات كالمفتي حسن خالد، وثمّة أيادٍ تعاقبت على لبنان وعبثت بأمنه وسياسته واقتصاده، فكان نصيب خالد الشهادة، خصوصاً وأنّه كان قامةً معتدلة رسّخت الوحدة الوطنية في ظل موجات التطرّف والتفرقة".
إلى ذلك، ورغم كونه رجل دين، تمكّن المفتي حسن خالد من حصد شعبية واسعة داخل صفوف كافة فئات البلد الطائفية، ولم يكن رجلاً سنّياً فحسب، بل وطنياً، لأنّه تميّز بالاعتدال وسعى للتلاقي، ولم يكن همّه تحصيل المواقع الطائفية والحفاظ على الحقوق الفئوية، بل كان مشروعه لبنانياً بامتياز، فكان ضمن رجال الدين القلائل الذين كانوا قدوةً للعمل السياسي.
ويتطرّق الجوهري إلى مبدأ انخراط رجال الدين بالسياسة، كحال المفتي حسن خالد، ويقول إننا "مع مبدأ فصل الدين عن الدولة، وبهذا المعنى لا نكون قد ألغينا مشاركتنا كرجال دين بالسياسة انطلاقاً من كوننا مواطنين يحق لنا المشاركة في الحياة السياسية، لكننا نكون قد ألغينا تقديس المواقع الدينية وتأليهها، فتكون مشاركتنا كمواطنين نتمتع بحقوقنا السياسية لا كرجال دين".
القاضي الدكتور الشيخ خلدون عريمط يستذكر الشهداء، "من المفتي الشهيد حسن خالد إلى العلّامة الشيخ صبحي الصالح والعلّامة الشيخ أحمد عساف، ومن الرئيس الشهيد رشيد كرامي إلى شهيد العصر وباني نهضة لبنان الرئيس رفيق الحريري، ومن سبقهم وأعقبهم من الشهداء الكبار، ليبقى لبنان الوطن شامخاً رغم جراحه".
وقال: "سيرحل الطغاة القتلة، ومعهم مرتزقة الغزاة الخونة إلى مزابل التاريخ، من أبي رغال في كل العصور، الى ابن العلقمي وأحفاده، الى صالح اسماعيل الأيوبي وأمثاله، ومن جاء بعدهم، في هذا الزمن الرديء بأهله؛ وسيبقى المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد في ذاكرة اللبنانيين جميعا مسلمين ومسيحيين ملهماً ودافعاً لهم للحفاظ على لبنان الحرية والتنوع والابداع".
وشدّد على أهمية "بقاء لبنان الوطن سيداً حراً عربياً مستقلاً متعاوناً ومتكاملاً مع أشقائه العرب، وأصدقائه الصادقين المخلصين، بعيداً عن كل المشاريع السياسية الواهمة والحالمة بتغيير خريطة هذا الوطن الجريح، وهذا الشرق العربي والإسلامي ديمغرافياً وجغرافياً".
إذاً، يفتقد لبنان لقامة كالمفتي حسن خالد، في ظل تصاعد مستويات التطرّف لدى العديد من رجال الدين الذين يتعاطون الشأن العام، والذين باتوا يقدّسون مواقعهم الدينية على مصلحة الوطن، ويحتكرون القرارات السيادية بإصبع ممدود، وينصّبون أنفسهم أولياء على الدم والسيادة، وهم في حقيقة الأمر بعيدون كل البُعد عن المشاريع الوطنية.