النهار

الإعلام الديني في لبنان: خارج الإطار التنظيميّ بانتظار القانون الجديد
شربل بكاسيني
المصدر: "النهار"
الإعلام الديني في لبنان: خارج الإطار التنظيميّ بانتظار القانون الجديد
الإعلام الديني في لبنان (تعبيرية- تصميم ديما قصاص).
A+   A-
يُشبه لبنان بطوائفه المتعدّدة ومذاهبه المتشعّبة تكتّلاً لجماعات في داخل حيّز جغرافيّ واحد، تتقارب حينًا، وتتباعد حينًا آخر، وقد خرجت من حرب أهليّة دامت لعقدٍ ونصف عقد من دون اطمئنان إلى مستقبلها.

يُعتَبَر قانون الإعلام، خاصة في مجتمع مثل لبنان، ضرورةً لتعزيز السلم الاجتماعي وضمان التنوّع الثقافي والديني، وللحفاظ على استقرار الدولة والتحكّم بما يتسرّب إلى عقول الجماهير، وللجم تطرّف الخطابات السياسية.
وعليه، يُدرس اليوم اقتراح قانون جديد للإعلام اللبناني بهدف تنظيم وسائل الإعلام، وضمنها المطبوعات - الدورية وغير الدورية - والإعلام المرئي والمسموع والإعلام الرقمي، وتوسيع العمل الإعلامي ليشمل مختلف أشكال وأنواع الوسائل، وتعزيز حماية حرية التعبير. لذلك، تشخص العين اليوم على المناقشات الدائرة في مجلس النواب، وثمة سؤال مطروح حول ما إذا كان القانون الجديد سيتطرق إلى وسائل الإعلام الدينية، فيسعى إلى إشراكها في الإطار التنظيمي العام للإعلام أم لا!

وفي الوقت الذي يخضع الإعلام المكتوب في لبنان لقانون المطبوعات، يستمرّ الإعلام الديني التلفزيوني والإذاعي خارج الإطار التنظيمي العام للإعلام، إذ لم يتناول قانون تنظيم الإعلام المرئي والمسموع (رقم 382 - تاريخ 04/11/1994) موضوع الإعلام الدينيّ.

كذلك كانت الحال مع توقيع "ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي"، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العام 2013، والذي شاركت فيه 34 مؤسسة إعلامية في لبنان معنيّة مباشرة بالتغطية الإخبارية، إذ استُثنيت وسائل إعلام أخرى من موجباته، ومنها وسائل الإعلام الدينية.


لا فرق بين إعلام ديني وغير ديني في اقتراح القانون
تتابع لجنة الإدارة والعدل دراسة اقتراح قانون الإعلام الجديد على ضوء ملاحظات وزارة الإعلام. وكلّفت أخيرًا لجنة فرعية بمتابعته ورفع تقريرٍ إليها.

يؤكّد النائب السابق غسان مخيبر (مشارك في اللجنة الفرعية)، في حديث لـ"النهار"، أنّ "قانون الإعلام الجديد الذي نسعى لتطويره لا يستثني أحدًا"، مشيرًا إلى أنّه ليس هناك "إعلام ديني" و"إعلام غير ديني"، مضيفًا: "لهذا السبب سوف يخضع الإعلام بجميع أشكاله لقانون الإعلام الجديد، سواء أكان إعلاماً خاصًّا أم عامًّا". فالقانون الجديد موضوع الدَرس يطمح إلى "أن يرعى جميع وسائل الإعلام المهنية"، يقول مخيبر. "ويخرج عن نطاقه كلّ ما لا يُعتَبَر من الإعلام المهني، أيّ المدوّنات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي".

في الأثناء، تتابع اللجنة عملها بحسب ما كُلّفت به، أي مراجعة الملاحظات التي كانت وزارة الإعلام قد قدّمتها على اقتراح القانون، مثلما تفعل ذلك لجنة الإدارة والعدل. يتعلّق المحور الأول بالهيئة الوطنية للإعلام (تشكيلها وصلاحياتها). وبحسب مخيبر، "تمّت مناقشة هذا الجزء، وتكاد صياغة أحكامه تُنجز". أمّا المحور الثاني فهو الأحكام الجزائية وأصول المحاكمات والمخالفات، والتي تضمن حقّ حرية التعبير والنشر والإعلام، مع مراعاة الضوابط التي أجازها القانون ومبادئه العامة، "لا سيما كلّ ما يرتبط بالقدح والذم والتشهير، والتي اتُّفق على أن تكون من الأفعال التي لا تترتّب عليها عقوبات بالسجن إنّما غرامات وتعويضات، وما يرتبط بذلك مثل حقّ الرّد والتصحيح والحقوق الملازمة للمخالفات وضبطها".

أمّا المحور الثالث فيتعلّق بالمؤسسات الإعلامية ونشأتها وأنواعها المتعددة. يقول مخيبر إنّ "البعض منها سوف يخضع لنظام ترخيص محدّد، والبعض الآخر سيخضع لنظام العلم والخبر، والذي لم نصل بعد إلى مناقشته. وتعمل اللجنة بجدّ على مناقشة هذه المحاور، بعيدًا من التسرّع". ويُتابع: "في نهاية المطاف، القانون الجديد ليس فقط لحماية المواطن والتحفيز على ممارسة الحق في التعبير والنشر، إنّما لتعزيز حق الناس بالوصول إلى المعلومات الصحيحة، وهذا هو تحدّي القانون الجديد".


كيف يمكن قراءة واقع الإعلام الديني في لبنان؟
ذكرت دراسة أعدّتها مؤسسة "مهارات" في العام 2017 أنّ "الإعلام الديني في لبنان يفرض نفسه بقوة على السلطة السياسية وعلى الخريطة الإعلامية في آنٍ معًا"، مشيرة إلى أنّ قانون المرئي والمسموع (1994) الذي تحاشى تشريع الإعلام الديني "لم يستطع منع ازدهار المؤسسات الإعلامية الدينية، التي فرضت نفسها من خلال المرجعيات الطائفية والمذهبية، بل نجح بعضها في استصدار تراخيص له".
 

وبناءً على الأهداف التي حددتها المؤسسات الإعلامية الدينية في لبنان لنفسها، وعددها 18 وسيلة إعلامية (ثلاث محطات فضائية تلفزيونية، عشر محطات إذاعية، وخمس مجلات)، استخلصت الدراسة أنّ المؤسسات هذه "تعمل انطلاقًا من رؤية معيّنة للواقع الاجتماعي العام بأبعاده الدينية والسياسية والوطنية، وإن كان الاهتمام يتركّز على الناحية الدينية، لكنّه يتخطى هذه الزاوية إلى أهداف أوسع تتناول بناء المجتمع والإنسان". وأشارت إلى أنّ الإعلام الديني في لبنان "يرسّخ الانتماء إلى مجموعة، مع ما يحمل ذلك من إيجابيات وسلبيات".

في السياق، يرى المستشار القانوني في مؤسسة "مهارات" الدكتور طوني مخايل، المشارك في إعداد دراسة "مهارات"، أنّ "البحث في واقع الإعلام الديني في لبنان لا يمكن فصله عن البنيان الثقافي والاجتماعي للجماعات المختلفة التي تشكّل المجتمع اللبناني". فقد شكّل لبنان قبل نشأته "أرضًا خصبة للتبشير والدعوة، وسهّل من ذلك الوضع الخاص لجبل لبنان أيام السلطنة العثمانية وانتشار الطباعة والمطبوعات، ومنها المجلات الدينية، لاسيما التبشيرية منها".
 
 أتاحت نصوص قانون المطبوعات اللبناني الترخيص لمختلف أنواع المطبوعات، بما فيها المطبوعات الدينية. ويمكن لشخص أو شركة أو جمعية أن تُصدِر مطبوعة دينيّة بموجب ترخيص يصدر عن وزير الإعلام، بعد استشارة نقابة الصحافة. لكن مخايل ينبّه، في حديث لـ"النهار"، إلى أنّ "انتشار الإنترنت جعل الإعلام الديني المقروء يتحوّل إلى النشر الإلكتروني الحرّ الذي لا يخضع لشروط الترخيص". ويشير في المقابل إلى أنّ "الإعلام الديني، من خلال البث التلفزيوني والإذاعي، وإن كان يصطدم بعوائق تمنع الترخيص له عبر البث الأرضي، فإنّ النصوص القانونية لا تمنع الترخيص له عبر البثّ الفضائي أو المرمّز، وفقًا للقانون الحالي النافذ رقم 382 لعام 1994".

"والبُعد الديني" - وفق مخايل - هو سمة ملازمة للخطاب السياسي في وسائل الإعلام الإذاعية والتلفزيونية المرخّصة حاليًا. ولا يخلو هذا الخطاب من التحريض وشدّ العصب الطائفي خدمة لمصالح سياسية، لا سيّما خلال الحملات الانتخابية أو النزاعات السياسية؛ وهذا الأمر يشكّل خطرًا على السلم الأهلي، وعلى المبادئ الأساسية التي كفلها الدستور اللبناني لجميع المواطنين من دون تمييز.

من جانبه، يُقسّم الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، علي رمال، الإعلام الديني في لبنان إلى جزئين، "الأول تقوم برامجه على التوجيه الديني، أو تكون من فحوى الدين صرفًا، من دون أيّ توجّه، فيما الجزء الآخر إعلام دينيّ سياسيّ طائفيّ، ويُعتَبَر عمليًّا من الإعلام الخَطِر في المجتمع اللبناني، لأنه يُسهم في بناء الجدران والحواجز بين المواطنين اللبنانيّين، بعكس فكرة الإعلام الديني الآخر الذي يدعو إلى التعايش".

ويقول رمّال في حوار مع "النهار": "فكرة أنّ الإعلام الديني في لبنان هو إعلام سليم غير واقعية، إذ إنّه يُستَغَلّ في السياسة وفي الزواريب أحيانًا، وفي المصالح الشخصية والفردية تحت عناوين عدّة باتت معروفة، وهي حقوق الطوائف وحقوق المذاهب وحقوق الأقلّيات، وغير ذلك".


بين التراخيص والسلم الأهلي
وحول مسألة إعطاء التراخيص للمؤسسات الإعلامية الدينية من عدمها، والتي تُعزّز الخشية من المساس بالسلم الأهلي، يرى رمّال أنّ "لا مصلحة للمجتمع اللبناني بالذهاب راهنًا نحو إعطاء التراخيص للإعلام الديني، في ظلّ الانقسامات الحادة في السياسة تحت مظلّة الدين، والسعي إلى الحصول على ما يُسمّى حقوق الطائفة لا حقوق المواطن". ويؤكّد أنّه "بهذا المعنى يكون تأثير الإعلام الديني سلبيًا، والمناخ اليوم غير مناسب لإعطاء التراخيص الرسمية".

في الإطار، يشدّد مخايل من جانبه على أنّ "الحكومات في لبنان لم تسعَ إلى جعل الإعلام الديني إعلامًا يحظى برعايتها بشكل رسميّ، على غرار الحقّ المكرَّس للطوائف في الدستور بإنشاء مدارسها الخاصة"؛ وإن كان الدستور اللبناني يكفل في مقدمته الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، "إلّا أنّ هذه الحرية لا يمكن أن تمارَس إلّا في إطار الأنظمة والسياسة العامة للدولة، وبشرط أن لا تخلّ بالنظام العام"، على حدّ تعبيره؛ "كما أنّ رعاية الإعلام الديني من قِبَل الدولة يمكن أن يتناقض مع مبادئ تسعى الدولة إلى تحقيقها، وهي إلغاء الطائفية السياسية كهدف وطني أساسي (الفقرة "ح" من مقدمة الدستور)، وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني لا الطائفي؛ فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان (الفقرة "ط" من مقدمة الدستور)".

كذلك، يشرح مخايل بأنّه "جاء في اقتراح قانون الإعلام الجديد أنّ تنظيم البثّ يهدف إلى "ترويج البثّ الإذاعي بفئاتٍ وأنواع مختلفة بما فيها خدمات البثّ في المجالات الثلاثة العامة والتجارية والمجتمعية"، ومن دون ذكر الإعلام الديني (المادة 2 من النسخة المقدمة من اليونسكو)".
ويذكر أنّ "قانون البث التلفزيوني يسعى إلى تنظيم الإعلام ومنح التراخيص وفقًا لتوجّهات تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة المشتركة لمختلف اللبنانيين، لا سيما في ما يتعلّق باستخدام التردّدات الأرضيّة التماثلية والرقميّة، والتي تُعتَبَر ملكًا عامًّا لكلّ اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والمدنية". وعلى ضوء ذلك، يؤكّد مخايل أنّه "لا يمكن للقانون أن يُتيح منح وسائل إعلام دينية ترخيصًا باستخدام هذه الموجات والتردّدات التي هي ملك عامّ"، على الرغم من الاتجاه السائد في اقتراح قانون الإعلام الجديد بأن تمنح الهيئة الوطنية للإعلام صلاحيات واسعة في تطوير مخطط التراخيص في سوق الإعلام وتحديد عدد التراخيص التي تُساق على أساس تنافسي ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك، بناءً على عملية استقطاب عروض. وفي هذا الإطار يحتاج اقتراح القانون إلى توضيح صلاحيات الهيئة في ما يتعلّق بالبث الفضائي لناحية الترخيص ودفاتر الشروط والنظام المعتمد لذلك، إذا ما كان على أساس تنافسي ومشمول بمخطط التراخيص أم لا".

إلى حين توضيح ذلك، لا يرى مخايل أنّ ثمّة ما يمنع من أن تُنشأ وسائل إعلام دينية تبثّ عبر نظام تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية "على أن تخضع لسلطة الهيئة الوطنية للإعلام، ولأحكام النظام العام والنصوص القانونية الملزمة. وكذلك لأحكام الشفافية في الملكية والتمويل".

ثمّة ضرورة مطلقة لأن يشمل قانون الإعلام وسائل الإعلام الدينية العاملة من دون تراخيص لوضع الضوابط، وهو ما يشدّد عليه رمال، "إذ تجب قوننة الموجود للمحافظة عليه، والتخفيف من أضراره في مجتمعٍ كالمجتمع اللبناني، إلى جانب الضوابط الشديدة على وسائل الإعلام العاملة على منصات التواصل الاجتماعي". لكن يبدو أنّ المؤسسات الدينية أقوى من الدولة، وفكرة الاقتراب منها، ومن مؤسساتها الإعلامية، تدخل في سياق المحرّمات. هذا الواقع يؤكّد أنّ لبنان نموذج فريد من نوعه لأن مظلة المؤسسات الدينية تغطّي مناحي الحياة الاجتماعية كافة، ولا قوانين تطبّق عليها. ويبقى التعويل على قانون إعلام جديد يشمل الإعلام بأنواعه كافة، يحدّد الضوابط التي تحقّق التوازن بين حرية التعبير والحفاظ على السلم الأهلي.

اقرأ في النهار Premium