نعمت كريدلي
تطرح التطورات العسكرية على الحدود الجنوبية وما يرافقها من انقسام سياسي عمودي في البلاد، تساؤلات حيال أسباب تقاعس العهود والحكومات اللبنانية المتعاقبة عن تسليح الجيش الوطني، بما يعزز حماية سيادة لبنان وشعبه، ويُسقط الذرائع التي يعتمدها بعض الجهات للتشكيك في قدرته على حماية البلاد من العدو الاسرائيلي وقدرات جيشه المتطورة.
فموقع لبنان الجيوسياسي يناقض نظرية راجت في ستينات القرن الماضي وسبعيناته أن "قوة لبنان في ضعفه". والتاريخ يشهد أنّ البقاء للأقوى عسكرياً واقتصادياً، وأنّ الامتناع عن تسليح الجيش ما هو إلا إنعكاس لغياب إرادة سياسية حقيقية لتحقيق سيادة لبنان.
الفرص الضائعة
لقد حصل لبنان في الماضي على العديد من الفرص لتسليح الجيش، لكن الأطراف المتنازعة في الحكومات المتعاقبة حالت دون ذلك. فبحسب العميد المتقاعد شامل روكز، "في الخمسينات كان الجيش اللبناني يمتلك منظومة سلاح مهمة مثل طائرات "ميراج" من فرنسا، و"هوكر هانتر"، لكن الحكومة عجزت في ما بعد عن صيانتها وباعتها لباكستان. وفي السبعينات وضع مجلس الدفاع العربي رادارات في الجبال التي اعتبرت مراكز إستراتيجية، وجرى إستهدافها في ما بعد من الإسرائيلين".
في حين يعتبر العميد المتقاعد جورج نادر "أنّ غياب الإرادة السياسية هو السبب الأساسي في عرقلة عملية التسليح، إضافة إلى معضلة "تحديد هوية العدو"، أي غياب إستراتيجية واضحة تحدد من يريد أن يحارب الجيش؟
إسرائيل كيان عنصري إجرامي لا يجمعنا به أي شيء، بينما نحن نختلف مع السوريين منذ إستقلال لبنان، وهم لا يعترفون بإستقلال لبنان ويعتبرونه محافظة من محافظات سوريا. لذلك نحن نختلف معهم، لكن لا نعتبرهم أعداء".
أمّا بالنسبة الى العميد المتقاعد سامي رماح، "فمنذ عشر سنوات ذهب وفد لبناني برئاسة وزير الدفاع سمير مقبل مع ضباط لبنانيين إلى إيران التي عرضت عليهم تسليح الجيش بطائرات ومدفعية وقذائف ودبابات، وكل ذلك مجاناً، ولكن الدولة العظيمة رفضت وربطت قبول هذه المساعدة بالتبعية لإيران. ثم ذهب الوفد نفسه إلى روسيا حيث عرضوا علينا تسليحنا مجاناً بعشر طائرات "ميغ 29" وهي الأحدث في العالم، ولواء دبابات "ت 72" ولواء مدفعية وقذائف الدبابات والمدفعية وكل ما يلزم وسلاح دفاع جوي وكل ذلك مجاناً، ولكن الحكومة رفضت هذه الهبة لسببين، الاول أن أميركا لا تقبل أخذ أي سلاح شرقي، والآخر أن الدولة ليست لديها ميزانية لتشغيل الطائرات، وهناك خوف من أن تقع هذه الأسلحة بيد "حزب الله" وكأنه "عايز سلاح".
مسؤولية الأطراف
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة: جيش بلا سلاح. مهزلة سياسية مستمرة ومن يدفع الثمن هو المؤسسة العسكرية والشعب. طرف سياسي يريد نزع السلاح غير الشرعي من دون أن يتمكن من تسهيل عملية تسليح الجيش، وطرف آخر يعرقل تسليحه لأنه يريد إستمرار السلاح غير الشرعي.
يشير العميد روكز الى "أن الدولة اللبنانية ضعفت كثيراً بعد الحرب الأهلية من الناحية الإقتصادية، بعكس إسرائيل التي طوّرت الأسلحة الجوية والطائرات الحربية.
بعد ذلك، أصبح تسليح الجيش اللبناني بإشراف أميركا التي لا تقبل تزويده أسلحة متطورة، لأنها تخاف أن يستخدمها في مواجهة إسرائيل.
في الفترة التي كان فيها الياس المر وزيراً للدفاع، قام بزيارة إلى روسيا التي وافقت على تقديم طائرات حربية حديثة الى لبنان، لكن أميركا رفضت وبقيت مشرفة على تدريب الجيش اللبناني وتسليحه، خصوصاً في غياب ميزانية خاصة للدفاع لشراء الأسلحة من دول أخرى".
وفي سياق آخر، يشرح العميد نادر لـ"النّهار" حجم القوة العسكرية للعدو الإسرائيلي
بالحديث عن إستراتيجية التسليح، ويتساءل: "هل نريد جيشاً محترفاً للقتال؟ ما هي نوعية الأسلحة التي يحتاجها الجيش، ومن أين سيؤمنها؟
كنتيجة لذلك، تتعارض الميول السياسية في ما يتعلق بمفهوم الإستراتيجية العسكرية.
في الواقع، تمتلك إسرائيل قوة عسكرية هائلة مجهزة لمواجهة كل الدول العربية، ولديها 180 ألف عسكري متطوع بشكل دائم وقرابة 450 ألف عسكري إحتياطاً.
فإذا أردنا محاربة حوالي 600 ألف عسكري، يجب أن يكون لدينا على الأقل ثلث العدد أي قرابة 200 ألف عسكري، وهذا العدد يستحيل تأمينه في الجيش اللبناني".
من جهة أخرى، يرى العميد رماح "إمكان تسليح الجيش اللبناني بالحد الأدنى من حفظ أمن البلد "فكل المطلوب هما قاعدتان لصواريخ دفاع جوي يجري شراؤهما سراً وتحفظان سراً، وكلما إعتدت إسرائيل ولو مرّة في الشهر، نطلق صاروخاً ونسقط مسيّرة أو طائرة وكل ذلك لا يتجاوز كلفة 10 ملايين دولار".
الاستثمار العسكري
ولماذا لم يحقق الجيش إستقلاليته الإقتصادية؟ يجيب روكز: "نحن لسنا كالجيش المصري أو السوري، فهما يمتلكان أراضي زراعية كبيرة وإستثمارات أخرى، لكن الوضع الاقتصادي للجيش اللبناني مرتبط بمجلس الوزراء.
يحتاج الجيش اللبناني إلى بنى تحتية صناعية إذا أراد الإستثمار داخل الأراضي اللبنانية. يمكن للجيش أن يستثمر في منشآت مثل مستشفى عسكري حديث ومصانع ذخيرة. إن إنشاء مستشفى عسكري حديث يوّفر مبالغ طائلة ويحتاج الى حوالي 60 مليون دولار. يستثمر الجيش في بعض المنشآت السياحية كالمسابح، النادي المركزي في بيروت وغيرها".
من ناحيته، يرى نادر "ضرورة نشر عدد كبير من الجنود على الحدود بعد تجهيزهم بدبابات وطائرات وبنى تحتية وغيرها من الأسلحة المتطورة. فعلى سبيل المثال، "المسيّرات هي التي تحسم مسار الحرب اليوم, إنّها حرب المسيّرات. لذلك، يحب أن نتابع التطور التكنولوجي في مجال التسليح، فلا يمكن أن نتسلّح اليوم ونطمئن غداً من دون مواكبة دائمة للتطوّر التكنولوجي العالمي في مجال التسليح. وهذه المواكبة تحتاج إلى ميزانية خاصة لدعم الجيش، علماً أن إسرائيل تمتلك مصانع أسلحة.
يكفينا 80 ألف عسكري محترف للدفاع عن لبنان. نحتاج إلى وحدات خاصة مدّربة مع بنى تحتية، متخفّية بشكل دائم وتمتلك القدرة على الاتصالات السلكية الممّوهة.
اعتمد لبنان منذ إستقلاله حتى اليوم على التسليح الغربي، تحديداً الفرنسي -الأميركي، وفي خلال الوجود السوري في لبنان إعتمد على التسليح الشرقي الخفيف.
لم أشعر أن هناك منعاً أميركياً من تسلح الجيش، فقد زوّدته أميركا مثلاً أنواع مهمة من القذائف في "فجر الجرود" Copperhead – laser-guided وهي قذيفة مدفعية مزعنفة دقيقة التوجيه.
عندما كنت ملحقاً عسكرياً في فرنسا 2013-2015 أرادت السعودية أن تعطي الجيش اللبناني هبة بقيمة 3 مليارات دولار لتسليحه بصواريخ مضادة للطيران، منظومة دفاع جوي وغيرها من الأسلحة النوعية، لكنها ألغت الهبة بسبب اتهام "حزب الله" لها بتمويل الإرهاب. كما كانت هناك محاولات باءت بالفشل لتسليح الجيش من روسيا بطائرات حربية. التسليح ثقافة وتآلف العسكري مع الأسلحة الجديدة يتطلب وقتاً وجهداً وتدريباً مستمراً على الإستخدام والصيانة".
الحل بحسب نادر "يكمن بوجود إرادة سياسية وإستراتيجية لتسليح الجيش، تحديد هوية العدو، تأمين التمويل المستدام، إيجاد مصدر لقطع الغيار والذخيرة.
لماذا لا نصنّع السلاح أو نبني مصانع لتصنيع الذخيرة، فمثلاً في أواخر الستينات إخترع ضابط لبناني صاروخ "أرز 1" و "أرز 2" في جامعة هايكازيان.
يجب ألا نعتمد على الخارج بشكل كلّي، لأن مصالح الدول الكبرى تتغيّر بطبيعة الحال بينها وبين لبنان".
أنا بالنسبة الى رماح، فيعتقد "أن الجيش قد لا يستطيع إذا جرى تسليحه أن يهزم إسرائيل بشكل كامل، لكن بالطبع يستطيع أن يردعها عن أي هجوم محتمل ويهزمها معنويا.
يمكن أن تشتري الدولة اللبنانية منظومة الدفاع الجوي "بانتسير" من روسيا، إضافة إلى صواريخ "كورنيت" المضادة للدبابات".
خطوة خاطئة
وعن فرضية ضم المقاومة إلى الجيش، يشدد على أن "هذه الخطوة خاطئة لأنها ستسهل على العدو إستهداف العناصر العسكرية كونها مكشوفة.
من يتخذ قرار تسليح الجيش اللبناني بعد إتفاق الطائف هو مجلس الوزراء، لكن هناك أيضاً تدخلات سياسية من المجلس النيابي من جهة، والضغوط الأميركية من جهة أخرى.
يجب أن يوافق مجلس الوزراء على تنويع مصادر التسلح، بما يسمح للبنان بالتحرر إلى حد ما من التبعية لجهة واحدة. إن تسليح الجيش يتطلب بكل وضوح قراراً وطنياً جامعاً".
ويضيف: "إذا كانت هناك أطراف لبنانية رفضت المساعدات العسكرية من روسيا وإيران في الماضي خوفاً من التبعية لهما، فليشتروا هذه الأسلحة من المال".
وعن إنشاء صندوق المغتربين لدعم الجيش مادياً كي يتمكن من الإستثمار، يقول: "نحن محكومون من ميليشيات طوائف، وبالتالي لا يمكن أن يقبلوا أي تمويل للجيش من المغتربين أو من أي جهات أخرى. فحتى الهبات لا تحول مباشرة إلى خزينة الجيش. أمّا عن فكرة الإستثمار الدائم للجيش، فلن تقبل كل الأطراف في الحكومة لأنها تابعة لأجندات سياسية. فالحل في رأيي هو تخصيص ميزانية خاصة له. ميزانية الدفاع لا تتعدى 2 في المئة.
اليوم يقوم قائد الجيش بتأمين الحد الأدنى من مقوّمات صمود الجيش. فتؤّمن قطر مثلاً مواد غذائية للجيش، في حين تعطي الولايات المتحدة الأميركية مساعدات مالية شهرية بقيمة مئة دولار للجندي".
قد يكون تسليح الجيش صعباً، لكنه ليس مستحيلاً إذا أراد الحكام تحقيق استقلاليته الاقتصادية، فمن أبسط حقوق الجيش امتلاك منظومة دفاع جوي وبري بحري، ومن أبسط حقوق الشعب اللبناني العيش في أمان واستقرار في ظل تفشي كل أنواع الأوبئة السياسية من فساد وجرائم وإنحطاط وحروب.