دائماً ما خلقت قدرات الجيش اللبنانيّ العسكريّة والتسلّح وإمكانيّة دفاعه عن الحدود والدخول في المواجهة مع إسرائيل جدلاً في الوسط السياسيّ والشعبيّ، تَكرّس انقساماً بين مشروعين، بين من يريد الدولة وللدولة أن تحكم، ومن يريد الدويلة وللدويلة أن تسود.
هذه الجدليّة تتجلّى اليوم على خلفيّات أحداث الجنوب وإمكان تورّط لبنان وانزلاقه إلى حرب تدمّر فيها إسرائيل ما تبقّى من بنيانه وبنى تحتيّة ومصادر حياتيّة للبنانيّين.
مخازن "الحزب" والجيش
وظيفة الحرب التي يختلف اللبنانيّون عليها، يُتّهم "حزب الله" بأنّه يصادرها كما غيرها من الوظائف الشرعيّة المناطة بالدولة اللبنانيّة. ومعلوم أنّ المرادف الطبيعيّ لمفهوم ومنطق ووظيفة الحرب يلتصق تلقائياً بالجيوش وتكوينها ودورها، والجيش اللبنانيّ هو واحد من هذه الجيوش التي تتميّز بمواصفات جيّدة، ولوحداته قدرات قتالية عالية وصلابة وجرأة. وحلوله في المركز الـ18 عربياً والـ111 عالمياً، في تصنيف القوة العسكرية "غلوبال فايرباور" globalfirepower لعام 2024 لأقوى جيوش العالم، لا يلغي، بحسب خبراء عسكريين، ما يستطيع أن يقوم به في ما لو توفّر له الغطاء السياسي والدولي، على مستويي القرار والتسليح، أي السلطة الشرعية والمجتمع الدولي.
فمقارنته بمجموعات عسكرية أخرى كـ"حزب الله" ظلم في حقّه، لأنّ "الحزب" مثلاً تصله كلّ الإمدادات العسكرية والأسلحة النوعية على مختلف الصعد، كالأنظمة الجوية والأسلحة البحرية إلى أخرى كالصواريخ الدقيقة وغيرها، فيما مخازن الجيش تفتقد لهذه الأسلحة. و"حزب الله" يعلم ماذا تحوي مخازن الجيش من ذخيرة وعتاد، فيما العكس غير صحيح. ومن يتحمّل مسؤولية عدم وجود سلاح غير متطوّر لدى الجيش اللبنانيّ هو السلطة السياسية، الذي راكم أداؤها الخنوع عدم ثقة دولية بالجيش وأجهزته، وشكّل عامل ردع تقف عنده البرلمانات الخارجية لمدّ الجيش بالسلاح النوعيّ والاستعاضة عنه بـ"القطّارة"، كما يقول المثل الشعبيّ. حتّى أنّ بعض السلاح النوعيّ النادر الموجود بحوزة الجيش يخضع لمراقبة الجهات المانحة، فتجري زيارات دورية للتأكّد من وجوده في "المخازن الشرعيّة".
القرارات الدوليّة "حامية"
لكنّ، السؤال، هل يحتاج الجيش ولبنان بشكل عام لسلاحٍ نوعيّ ومتطوّر جداً لحماية سيادته؟ قد يكون هذا مطلوباً، خصوصاً أنّ أطماع الجيران في لبنان لا تقتصر على الأعداء والغرباء بل على الأشقاء والأصدقاء. لكن في الوقت نفسه، لابدّ من الإشارة، إلى أنّ الجيش منذ اتفاقية الهدنة، لم ينخرط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل إلّا مرّة واحدة، كانت عام 1972. ومذذاك، لم يحتج لبنان على غرار جارته المسالمة قبرص إلى السلاح النوعي أو النووي لفرض السلام والاستقرار في ربوعه، بل، أنّ القرارات الدولية والشرعيتين العربية والدولية حمته على مدى سنوات إلى عهد "حزب الله". حتى أنّ الغزوتَين الإسرائيليّتَين عامي 1978 و1982 كانتا رداً على الأعمال الفدائية التي كانت تنطلق من الأراضي اللبنانية. وبالتالي، يعطي اللبنانيون أهمية للمساعي الديبلوماسية وإمكانية الرهان على القرارات السياسية الدولية والعربية في حماية لبنان، وإذا كان لا بدّ من حرب، فلتكن من خلال القوات الشرعية. إذ بالنسبة إلى موقع لبنان الجيوسياسيّ، أفضل الحلول البقاء في الحياد وعدم تبنّي معادلات قوّة لا تؤتي ثمارها، لا بل أثبت التاريخ القديم والحديث أنّها تجرّ المصائب والويلات والدمار والخراب على البلد. والأرقام في هذا السياق تشكّل فضيحة كبيرة، فمنذ عملية 7 تشرين الأول تقدّر الخسائر في الجنوب بثلاثة مليارات دولار حتّى الآن، وعدد المنازل المدمّرة تقدر بنحو 1880 وحدة سكنية، وبلدات سُوّيت بالأرض، نحو 500 قتيل و1000 جريح، ونزوح ما يزيد على 100 ألف شخص.
من هنا، الطلب الدائم السماح للجيش باستقدام السلاح من مصادر مختلفة، كروسيا مثلاً وغيرها، ولا يبقى محصوراً ببعض الدول الغربيّة.
من توازن الرعب الى الرعب من دون توازن
في المقابل، إنّ "حزب الله" المصنّف إرهابياً عالمياً، هو حركة مقاومة بالنسبة إلى المؤسسة السياسية اللبنانية، وعمله مشرّع في البيانات الوزارية، حتّى يومنا هذا، وبالتالي، لا يمكن للجيش الدخول في مواجهة مع "الحزب"، أو أن يَطلب منه إخلاء مواقعه على الحدود أو أيّ بقعة جغرافية لبنانية من دون قرار وغطاء سياسيّين من السلطة السياسية.
ولا يمكن تحميل الجيش وزر أخطاء وتخاذل سياسيين من فئات مختلفة، لم يدركوا بقصر نظرهم، ماهيّة "حزب الله" عقائدياً وتنظيمياً، وتأثيره على المسار السياسيّ في لبنان. فمن زايدوا في العام 2006 دفاعاً عن "المقاومة"، حذّرهم جون بولتون ممّا تقترف أيديهم، قائلاً لهم، "ستندمون".
يسأل السيد حسن نصرالله في أحد خطاباته، "من الذي يمنع الجيش اللبنانيّ من أن يصبح جيشاً قوياً وينشئ ميزان ردع في وجه إسرائيل"؟
هذا يفسّر، ما يُسمّى في السياسة غسل الدماغ Brainwashing كأسلوب من أساليب الترهيب النفسي للتأثير سلباً في أفكار اللبنانيين وأنماطهم السلوكية وقناعاتهم، فيشيع "حزب الله" أنّ سلاح المقاومة "هبة ربّانية"، وهذا السلاح يحمي اللبنانيين، ويشكّل ميزان ردع في وجه إسرائيل، على عكس الجيش الذي لا يملك ترسانة صاروخية ونظاماً جوياً وسلاحاً بحرياً، حتى بات كثيرون، ومنهم مَن تدرّبوا وتدرّجوا وتقاعدوا من المؤسسة العسكرية، يروّجون عن قصد أو غير قصد، أنّ الجيش غير قادر، وذهبوا بعيداً في الترويج للميليشيا لا للدولة، ونقل وظيفة الحرب إلى مجموعات أخرى واعتبار الجيش كحركة كشفية.
وبما أنّ "حزب الله" ينطلق من عقيدة مدماكها أنّ لبنان بقوّته، وقوّته تكمن بسلاحه. انطلاقاً من هنا، يمكن الإجابة على سؤال من يمنع الجيش من الانتشار على الحدود الجنوبية وأن يقوم بمهامه؟
وفي الوقت نفسه، يرى عارفون في شؤون المؤسسة العسكرية، أنّ "الحديث عن غياب التسلّح لهذه المؤسسة لا يعني أنّ الجيش عاجز، بل جلّ ما يطلبه هو القرار السياسيّ، متى تأمّن، عندها لكلّ حادث حديث، وليروا إذا كان الجيش غير قادر. وهو، لا يتأثر بالـ"بروباغندا". ورأيتم ماذا فعل مع المنظمات التكفيرية إن في نهر البارد أو على الحدود الشرقية. عندما قرّر المواجهة نجح، فدعونا لا نشكّك بقدرته على ضبط الحدود".
ويقولون إنّ "وضع الجنوب أكبر من مساحته، بل يمتدّ على مساحة المنطقة كلّها، وتتداخل في هذه المساحة مصالح واعتبارات وتسويات، من هنا، ولنكن واقعيين، المسألة باتت تتخطّى قراراً حكومياً داخلياً في ظلّ مجلس "يصفّق" للمقاومة ورئيس حكومة ينوّه بدورها. القرار في الجنوب، متى اتُّخذ بين الدول الإقليمية والدولية، سيكون عندها للجيش حضوره، خصوصاً أنّه في النهاية لا عنصرَ استقرارٍ ناجحاً ومستداماً بديلاً عن الجيش اللبناني، وبمؤازرة اليونيفيل إذا تطلّب الأمر".
وبما يتعلق بـ"حزب الله"، كانت نتيجة 8 أشهر من الصراع، كافية لإسقاط شعارات وعناوين تباهى بها على مدى عقود، وبدل "توازن الرعب" الذي لطالما نادى به، بات هناك "رعب من دون توازن" بثّته إسرائيل في نفوس قادته، حتّى باتت تصطاد القادة و"لو في الصين". فمن لا يستطيع أن يحميِ ناسه ومقاتليه لن يستطيع أن يحمي بلده.
ويبقى الخوف، من وقوع الحرب، إذ هناك قرار لدى قيادة الجيش للمشاركة دفاعاً عن السيادة اللبنانية من دون أن يعني ذلك انخراطاً في صفوف "حزب الله" أو خضوعاً لقراره. فهو لن يتوانى عن الدفاع عن الأرض إذا استبيحت، لأنّ هذا هو جوهر دوره ووظيفته، ولو أنّه بطريقة أو بأخرى لم يكن، لا هو ولا وصيّه السياسيّ مشاركاً في هكذا قرار.
لا تعايش أبديّاً
يسأل كثيرون، كيف يستطيع جيشٌ لبنانيّ شرعيّ أن يتعايش مع جيش غير شرعيّ أو ميليشيا حزبيّة لها في العقيدة الحزبية والدينية والعقائدية غير ما له كليّاً؟ الإجابة، أنّ الجيش تاريخياً فُرض عليه التعايش مع مجموعات عسكرية رديفة بدءاً بمنظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى "حزب الله"، وهذا يرتبط دائماً بالقرار السياسيّ الغائب لدى السياسيين الذين يتناوبون على السلطة في لبنان، فيجعلون منه لاعباً هامشياً لصالح هذا أو ذاك من الأحزاب وخدمة لأجندة هذه أو تلك من المنظمات العسكريّة.
هذا يأخذنا إلى وصف طبيعة العلاقة بين الجيش و"حزب الله"، فيؤكّد العارفون بـ"أنّها استقلاليّة، أي بين مكوّنين عسكريين مختلفين، بوجود مسافة وضعها قائد الجيش العماد جوزف عون، ولو أنّ الواقع الأمنيّ والعسكريّ يحتّم تنسيقاً عسكرياً أحياناً وتبادل معلومات". فـ"الحزب" رغم "المَونة" الموجودة على جهاز المخابرات، كما يُقال، لا تنسحب هذه "المَونة" على قيادة الجيش التي لا حرج لقائدها في استقبال وفيق صفا كما يستقبل ممثلين عن أحزاب أخرى، منها "القوّات اللبنانيّة".
والتنسيق لا يعني خضوع اليرزة لقرار الضاحية، فلكلّ قراره الحرّ والمتحرّر من أيّ قيود. والأهمّ، أنّ الاستثناء لا يمكن أن يكون القاعدة، و"حزب الله" اليوم هو استثناء ولن يكون القاعدة إلى الأبد، فلكلّ مرحلة ظروفها ورجالها وقادتها، ونادر العثور في هذه المرحلة على رجالات دولة وزعامات وطنيّة.