سينصبّ الاهتمام العالمي الواسع في الفترة المقبلة على الانتخابات الرئاسية الأميركية والسباق المحتدم بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ونتائجه التي ستترك أثرها على العالم بأكمله، علماً بأنّ المرتقب أن يأخذ الاستحقاق منحًى آخر بعد انسحاب الرئيس الحالي جو بايدن من السباق الرئاسي؛ وذلك في ظل أجواء أوليّة تُشير إلى تقدّم الجمهوريين في استطلاعات الرأي.
لا تتبدّل سياسات الولايات المتحدة مع تبدّل الإدارات. على سبيل المثال لا الحصر، فإن إسرائيل وأمنها أولويّة أميركية، لكن تكتيكات العمل تختلف ما بين إدارة وأخرى. ففي حين ركنت إدارة دونالد ترامب إلى سياسة الضغوط القصوى لمواجهة توسّع إيران ودفعها إلى المفاوضات مثقلة بالعقوبات، لجأت إدارة بايدن إلى الديبلوماسية لاستعادة الاتفاق النووي بين البلدين. لكن الطرفين أرادا اتفاقاً بشكل أو بآخر.
"للإدارات الأميركية ثوابت لا يُمكن العودة عنها"، هذا ما يُشدّد عليه الكاتب السياسي سام منسّى، الذي يُشير إلى أن السياسات الأميركية الخارجية المحكومة بمصالح وعلاقات مع حلفاء وخصوم لا تتبدّل، وإن كان هناك تغيّرات لجهة الممارسة ما بين إدارة وأخرى. وفي ما يتعلّق بلبنان، فإن هذه التغيّرات تكون مرتبطة بإيران ومنطقة الشرق الأوسط، ويتأثر بها لبنان.
لبنان ليس أولوية في واشنطن، لكنه يتأثر بشكل مباشر بالسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، انطلاقاً من وجود "حزب الله"، أقوى مجموعات إيران في المنطقة، وسيطرته على القرار اللبناني. بالتالي، فإنّ كيفيّة مقاربة الملف الإيراني في الولايات المتحدة تنعكس على لبنان، وقد استجدّ الصراع في غزّة وجنوب لبنان ليكون عاملاً إضافياً يقرّر شكل المقاربة.
الصحافي موفق حرب يُشير إلى أن "ثمّة عوامل تحكم مقاربة الولايات المتحدة للبنان، منها العلاقة اللبنانية - الأميركية المباشرة، التي كانت خلال عهد رونالد ريغان، ثم جورج دبليو بوش، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومنها السياق الإقليمي الذي يندرج فيه لبنان، انطلاقاً من دور "حزب الله"، والصراع العربي – الإسرائيلي، والنزوح السوري، إلى غير ذلك من القضايا الإقليمية".
من جانب معين، يستمدّ لبنان موقعه في المعادلة الأميركية من "حزب الله"، وفق ما يُشير إليه منسّى، الذي يقول إن "لبنان كدولة وكيان ليس موجوداً ضمن الأولويات الأميركية، لكنه يتأثر من زاوية التعامل الأميركي مع "الحزب" المُسيطر على القرار السياسي والأمني في لبنان، ومدى الخطر الذي يُشكّله على إسرائيل".
والعودة سنوات قليلة إلى الوراء تكشف حقيقة المشهد. ففي العام 2015، عقدت الولايات المتحدة ودول أوروبية اتفاقاً نووياً مع إيران، كَتَب بالحبر الإطارَ الذي يجب ان تستخدم فيه ايران مستويات تخصيب النووي، من دون أن يضع الحدود، ولا الإطار للعبتها الإقليمية ونفوذها في المنطقة. وبعد أقلّ من عام، انتهت الأزمة الرئاسية في لبنان بانتخاب الرئيس السابق ميشال عون، حليف "حزب الله"، كرئيس للجمهورية.
هذه المشهدية حصلت في ظلّ إدارة ديموقراطية تمثّلت بالرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، كانت أميركا تسعى إلى إرساء نوع من الهدوء في المنطقة، بعد التوترات التي حصلت على إثر ما سُمّي بـ"الربيع العربي". لكن إدارة ترامب لاحظت نفوذاً إيرانياً واسعاً إثر سياسات سلفه أوباما، فانسحبت من الاتفاق النووي الذي كانت تعتبره مضرّاً بمصالحها ومصالح إسرائيل، وفعّلت سياسة العقوبات القصوى.
برأي حرب، فإن "سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان لا تتبدّل بشكل كبير وجوهري بين الإدارات الجمهورية والديموقراطية. على سبيل المثال، فإن العقوبات فُرضت على "حزب الله" خلال عهدي ترامب وبايدن، وأميركا دعمت الجيش اللبناني خلال مختلف الإدارات. لكن الاختلافات تكمن في سياق لبنان الإقليمي وطريقة مقاربة الملف الإيراني، وعند التصعيد تتسارع العقوبات مثلاً".
أما في ما يتعلّق بالمرحلة المقبلة، فإنّ ثمّة ملفات واستحقاقات كثيرة تحكم طريقة مقاربة الولايات المتحدة للتعاطي مع "حزب الله" ولبنان، منها ما هو مرتبط بحرب غزّة وجنوب لبنان، مروراً بالملف الرئاسيّ وإنتاج السلطة في لبنان والمكاسب التي ينتظرها "الحزب" من الدولة العظمى لقاء تسويات على الحدود، إلى ما هو مرتبط بالبرنامج النووي الإيراني، الذي عاد ونشط في ظلّ فشل المفاوضات النووية في فيينا، وتأثيره على الانتظام السياسي في لبنان. وهوية الإدارة الأميركية الجديدة بعد الانتخابات ستحدّد منهج العمل؛ فمع الجمهوريين قد يُنتج التشدّد، ومع الديموقراطيين سيكون المنحى تسوويّاً.
منسّى يقول، في هذا السياق، "من الصعب توقع سياسات الإدارة الأميركية الجديدة، لكن قد نشهد مرحلة من التشدّد مع إيران تليها مرحلة من التساهل، إذا تمّ التوصّل إلى اتفاق؛ والعقوبات وغيرها من أدوات الضغط مرتبطة بسؤال محوريّ، هو ماذا تُريد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط؟"، مع العلم بأن حرب غزّة بات من الواضح أنّها حرب بين الغرب من جهة، والصين وروسيا وإيران من جهة آخرى.
ويُشير إلى أن هذه المرحلة عنوانها جسّ النبض بين الولايات المتحدة وإيران. فالأخيرة تنتظر نتائج الانتخابات الأميركية، والطرفان ينتظران ما ستؤول إليه حرب غزّة. وبعد اتضاح الصورة يتمّ الانتقال نحو الضغط السياسي والمفاوضات، ويبدأ الحديث عن اتفاقات، لكن هذه السيناريوهات لا تتعدّى ميدان التحليل، ولا يُمكن توقع ما سيحصل، خصوصاً إذا وصل ترامب، "الرجل الذي لا يُمكن توقّع أفعاله".
بدوره، يقول حرب إن أنظار إيران تتجه نحو الانتخابات الأميركية ونتائجها، وقد تستغلّ الانشغال الأميركي للاستمرار في تخصيب النووي، علماً بأنها باتت قريبة من إنتاج قنبلة إذا قرّرت ذلك، لكنّها قد تنتظر انقضاء المرحلة وإنجاز الاستحقاق الأميركي للبناء على الشيء مقتضاه.
في المحصّلة، فإن لبنان ليس موجوداً في صلب السياسات الأميركية، لكن إيران موجودة، وهذا ما يجب أن تشخص إليه الأنظار في الفترة المقبلة لمعرفة مصير لبنان. فإذا اختارت الولايات المتحدة التشدّد حيال إيران ونفوذ مجموعاتها في المنطقة، فإن التضييق على لبنان سيزداد للإضرار بـ"حزب الله"، أما إذا كان ثمّة اتفاق بين الطرفين، فإن مصير لبنان ستحدّد على أساسه.