أهميّة ما تقوم به المعارضة أنّها لم تتراجع عن مواقفها عندما عطّل فريق الممانعة الدستور الذي اعتاد منذ 2005 أن يعطّل فينتزع مطالبه تحت ضغط التعطيل. نحن أمام معادلة جديدة وأيّ تسوية يجب أن تنطلق من تنازلات متبادلة والتقاء في منتصف الطريق، وما لم يحصل ذلك فالمعارضة لن تتراجع على غرار تراجعات سابقة.
هي ثوابت بمستوى استراتيجيّة، للمعارضة بكلّ قواها وأركانها، أمام محور الممانعة بشقّيه الداخليّ والخارجيّ، لأنّ الإدراك اليوم ألّا مجال للتراجع والصمود ولو بـ"اللحم الحيّ"، وهو المدماك لتغيير قواعد اللعبة مستقبلاً، وتمكين لبنان من التفلّت من الخنقة الإيرانيّة.
مشروع المعارضة حاليّاً، يبدأ بقطع الطريق على نموذج رئيس شبيه بميشال عون أو إميل لحود. وأيّ اتفاق لا يأخذ في الاعتبار موازين الانتخابات النيابية وجلسة 14 حزيران الرئاسية من العام 2023، لن يُكتب له أن يرى النور.
تتسلّح المعارضة بقوّة قادتها وسياسييها وشعبها، وتؤكّد أنّها لا تتعاطى بمثالية بغضّ النظر عن موقف الثنائيّ من مبادرتها الرئاسيّة. هي اليوم لم تبادر من فراغ، إنّما من أجل التأكيد أنّها تريد انتخابات رئاسيّة، وفي اللحظة التي يدعو فيها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي الى جلسة انتخابيّة رئاسيّة في ظلّ وجود مرشّحين هما سليمان فرنجيّة وجهاد أزعور، ستلبّي الدعوة.
ومن خلال خارطة الطريق التي طرحتها على الكتل، ورَفَضها الثنائيّ، أرادت أن تؤكّد المؤكّد، أوّلاً، أنّها تريد انتخابات رئاسيّة، ثانياً، أنّ تعطيل الانتخاب لن يجعلها تسلّم بالواقع التعطيليّ. ثالثاً، كشْفُ الفريق المعطّل، فالثنائيّ الشيعيّ لا يريد رئيساً وحوارًا إلّا بشروطه. فهذا الفريق الذي "يطحن" آذان الناس بالحوار، رفض أن يحاور المعارضة. والسؤال لماذا؟
ورابعاً، أنّ هناك كتلاً نيابيّة لا تريد أن تحسم موقفها.
بالموازاة، تعي قوى المعارضة حجم إذعان الحكومة لـ"حزب الله" وسيطرة الأخير على قراراتها وقرار الحرب والسلم، وأهميّة العريضة التي قدّمتها إلى الرئيس برّي طالبة عقد جلسة لمناقشة الحكومة بمسألة الحرب وتداعياتها، تكمن بحجم المسؤوليّة الملقاة عليها، خصوصاً أنّها في مطلع الحرب طالبت بعقد جلسة لمسائلة الحكومة حول بأيّ حقّ يتّخذ "حزب الله" قرار الحرب.
الهدف من هذه الجلسة، أوّلاً، رفض أن يكون ما حصل في 8 تشرين الأوّل القاعدة التي تحكم العلاقة بين اللبنانيين، وأن يسمح فريق لنفسه عند كلّ منعطف أن يصادر حياة الناس ويأخذ قرار الحرب، إذ يجب الوصول إلى اتفاق بأنّ قرار الحرب هو حصراً داخل الحكومة.
ثانياً، تجنّباً لتوسيع الحرب تعمد الحكومة إلى تحمّل مسؤولياتها عبر إرسال الجيش اللبنانيّ إلى الحدود وإبعاد "حزب الله" عنها، وإلّا يتحمّل "الحزب" والحكومة معاً مسؤولية توسّع الحرب نحو لبنان والمخاطر الناتجة عنه.
وثالثاً، وهي النقطة الأهمّ، في ما يتعلّق بـ"اليوم التالي"، أي بعد انتهاء الحرب. فلا يظنّنّ أحد، أكان موفداً دوليّاً أو فريقاً داخليّاً، أنّ أيّ تفاوض سيكون محصوراً بـ"حزب الله"، إذ يجب أن يكون هذا التفاوض، إن حصل، بناء على نصوص مرجعية، هي 1701، 1559، 1680، واتفاق الطائف.
وبالتالي فالمطلوب، بالنسبة إلى المعارضة، أن يكون التفاوض بعد الحرب على قاعدة الالتزام الفعليّ بالقرار 1701، وهذا ما أبلغته المعارضة للموفد الأميركيّ آموس هوكشتاين. فالمشكلة انّ هذا القرار لم يُطبّق على غرار القرارات الدوليّة الأخرى ومنها الـ1559 الذي يتحمّل المجتمع الدوليّ مسؤوليّة عدم تطبيقه. من هنا هي مسؤولية المجتمع الدوليّ إنهاء الحرب على قاعدة التطبيق الفعليّ للـ1701، وألّا يكون هناك سلاح ليس فقط على مسافة 10 كيلومترات بل على مسافة جنوب الليطانيّ برمّته، وصولاً إلى تطبيق الـ1559 الذي ينصّ على نزع سلاح "حزب الله" بشكل نهائيّ.
في الموازاة، الخوف من تسويات إذعان بين إسرائيل و"حزب الله" تُطيح بكلّ هذه المطالب، أمرٌ تتنبّه له المعارضة، لكنّ المنطق الطبيعيّ يقول إنّ المشهد اليوم مختلف عمّا كان في العام 2006. في الـ2006 كانت الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، أمّا اليوم فهي بين إسرائيل وإيران عن طريق أذرعها كحماس و"حزب الله" والحوثيّ والحشد الشعبيّ، فضلاً عن أنّ إسرائيل تعلّمت من تجربة 2006، باعتبار أنّ هناك قراراً دوليّاً لم يُطبّق بفعل تلكّؤ دوليّ في تطبيقه، وبالتالي نحن في مرحلة مختلفة وفي ظروف مختلفة، واللعبة مفتوحة على شتّى الاحتمالات، وكلّ منطق التسوية بين إسرائيل و"الحزب" ساقط.
ولا تخفي المعارضة تخوّفها من نوايا رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، في ظلّ ظروف إسرائيلية داخليّة لا تعوقه، وخارجيّة أميركيّة بدأت تميل لمصلحته، إن بإمكانية وصول دونالد ترامب أو بشلل الإدارة الأميركيّة الحاليّة التي كانت تمارس ضغوطاً عليه، وبالتالي، هو ذهب اليوم إلى واشنطن وهناك ترقّب لكلمته أمام الكونغرس، ولا أحد يعرف كيف سيعود، وما إذا كان سيستفيد من هذه الظروف المهمّة اليوم لشنّ حرب واسعة، لذلك ترى المعارضة أنّه على أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله أن يوقف حرب المساندة في هذه المرحلة، وعدم السماح لنتنياهو باستغلالها لتوسيع الحرب.
وفي مسألة خارطة طريق الغد، يمكن الكلام عن اتّجاهين لدى المعارضة، الاتّجاه الأوّل، المزيد من وحدة الصفّ، والمزيد من المواجهة السياديّة، ورفض الاستسلام والخضوع ورفض تسويات الإذعان، ورفض الخضوع للتعطيل، والمزيد من الإصرار على تطبيق الدستور، وعلى انتخابات رئاسيّة على قاعدة جلسة مفتوحة بدورات متتالية.
والاتّجاه الثاني، وضع آليّات المواجهة ورفع السقوف. فهناك أفكار عدّة بدأت تُطرح لمواجهات مستقبليّة، وما اقترحه اللواء أشرف ريفي جزء من هذه الأفكار، أي الذهاب إلى مواجهة قصوى من دون سقوف، في ظلّ قناعة راسخة لدى المعارضة بأنّ فريق الممانعة لا يريد رئيساً للجمهوريّة إلّا بشروطه، ولا يريد حواراً إلّا بشروطه، ولا يريد حتّى جمهوريّة إلّا بشروطه، وبالتالي لا مساحات سياسيّة مشتركة مع هذا الفريق لجهة بناء الدولة والقيام بمشاريع الإصلاحات، مسألة الذهاب إلى تظاهرات، ورفض دفع الضرائب التي تذهب إمّا إلى جيوب الثنائيّ الشيعيّ أو هدراً إلى من يمسكون بالدولة أمر يُناقش ويُدرس، إضافة إلى أفكار أخرى قيد الدرس.