لم يكن رد "حزب الله" على اغتيال إسرائيل قائده العسكري فؤاد شكر خارج إطار التوقعات، بل إنّه يتناسق مع الإشارات التي أطلقها الحزب وأمينه العام السّيّد حسن نصرالله في وقت سابق، حينما تمّ التشديد على أنّ أيّ قصف لبيروت وضواحيها سيُواجه باستهداف تل أبيب وضواحيها، لكن في الوقت عينه لن يجرّ المنطقة إلى حرب واسعة وشاملة.
قراءة في الهدف... ما أهمّيّة "أمان" والوحدة 8200؟
أعلن "حزب الله" استهداف قاعدة "غليلوت"، وهي قاعدة للمخابرات العسكرية "أمان"، حيث تتمركز الوحدة 8200، وللمكان دلالة. فالاستخبارات العسكرية والوحدة 8200 مسؤولتان عن عمليات الاغتيال التي تستهدف قادة الحزب، وهي الاغتيالات الموجعة التي طالت أبرز القيادات الميدانية، وعلى رأسهم فؤاد شكر، وقبله طالب عبدالله ووسام الطويل وغيرهم.
الباحث في الشؤون العسكرية العميد المتقاعد ناجي ملاعب يتحدّث عن أهمية الفرقة المستهدفة 8200 وقدراتها، ويُشير إلى أنها وضعت إسرائيل في موقع ثاني أقوى دولة بالقدرات الاستخباراتية بعد الولايات المتحدة، وتضم ألف عنصر تقريباً، ومهمتها جمع المعلومات عبر مصادر متعدّدة وتحليلها وتسليمها إلى الميدان لتنفيذ العملية، وهي مسؤولة عن عمليات الاغتيال التي تحصل.
يوافق العميد المتقاعد خليل الحلو على أهمية الهدف، وبرأيه، فإنّ المخابرات العسكرية والوحدة 8200 أهمّ جهازين استخباراتيين في إسرائيل، ومسؤولان عن أدوات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى جمع المعلومات عن مواقع "حزب الله" وقيادييه، وبالتالي فإنّ رمزية الاستهداف مهمّة جداً.
لكن خلال اتصال مع "النهار"، يُفضّل حلو التريّث قبل الحديث عن نجاح الرد أو فشله، وتناسبه مع اغتيال شكر من عدمه، لأن نتائج الرد غير واضحة بعد حتى بالنسبة لـ"حزب الله" الذي قال على لسان نصرالله إنّ الحزب سينتظر المعلومات عن نتائج ضربته ليقرّر في ما بعد نجاح العملية والاكتفاء بها، أو تنفيذ عملية أخرى.
تكتيك الردّ... خبرة ميدانيّة ووراثة إيرانيّة؟
"حزب الله" حرص على عدم تخطّي قواعد اشتباك متّفق عليها، وهي استهداف المدنيين أو المنشآت الحيوية والبنى التحتية المدنية، لأنّه يعلم أنّ ذلك سيعني لإسرائيل "إعلان حرب" لا يُريدها، بل أراد توجيه رسائل عسكرية إلى إسرائيل مفادها أنّه قادر على استهداف العمق، ورسائل شعبية لقاعدته الجماهيريّة تتمحور حول قدرته على الردّ على الاستهدافات.
تكتيكياً، لجأ "حزب الله" إلى أسلوب إيران الأخير الذي استخدمته حينما هاجمت إسرائيل في نيسان الماضي. يعلم الحزب أنّ الدفاعات الجوية تمثّل التحدّي الأكبر لترسانته الصاروخية، فاضطر إلى إطلاق صواريخ كاتيوشا بأعداد كبيرة لاستنزاف المضادات وتأمين مسار المسيّرات، وهو ما اعتمدته إيران حينما أطلقت مسيّرات قبل الصواريخ.
في هذا السياق، يُشير ملاعب في حديث لـ"النهار" إلى أنّ "حزب الله" تمرّس على مدار أشهر في كيفية التعاطي مع الدفاعات الجوية واكتسب الخبرة اللازمة، فاستخدم تكتيك إلهاء القبّة الحديدية بنجاح وخرق العمق الإسرائيليّ بمسيّراته، في حين يقول حلو إنّ كثافة الرماية من جهة وطيران المسيّرات على علو منخفض حالا دون نجاح الدفاعات الجوية من إسقاط الطائرات دون طيّار.
قراءة في العمليّة الاستباقيّة الإسرائيليّة
إلى ذلك، كانت العملية الاستباقية الإسرائيلية موضع جدل بين نجاحها في إحباط هجوم كبير لـ"حزب الله" وفشلها في التأثير على الردّ. من منظور إسرائيلي، فإنّ الهجوم الاستباقي دمّر مئات منصّات الصواريخ التي كانت معدّة للإطلاق، في حين نفى نصرالله في خطابه أيّ تأثير، ولفت إلى أنّ عدد الصواريخ الذي كان مقرّراً أُطلق، لا بل تمّت إضافة 40 صاروخاً تقريباً.
إسرائيل تستند في روايتها إلى أنّ أجهزتها الأمنية والعسكرية علمت تفاصيل عن رد "حزب الله"، كموعده وقوّته الصاروخية، فقامت بعمليتها الاستباقية وأفشلت المخطّط، أو بالحدّ الأدنى أضعفت قوّته، لكن في رأي "حزب الله"، فإنّ عملية إسرائيل الاستباقية طرأت بعدما رصدت تحرّكات غير اعتيادية، وقصفها كان عشوائياً وليس محدّداً لاستهداف المنصّات المنوطة بالردّ.
في هذا السياق، ثمّة نقطة يجب التوقّف عندها، وهي قدرة إسرائيل على اختراق "حزب الله"، وبرأي مراقبين، فإنّ إسرائيل القادرة على اغتيال القائد العسكري للحزب فؤاد شكر قد تكون قادرة على معرفة مخطّطات الحزب وموعد الردّ وكثافته الصاروخية، وقد لا تلجأ إلى إحباطه بشكل تامّ لإنجاح الردّ ظاهرياً والانتهاء من عملية الردّ والردّ المُضادّ وانتظار "حزب الله".
حلو يرجّح أنّ هجوم إسرائيل الاستباقيّ استند إلى رصد حركة ميدانية ومعلومات استخباراتية، لكنّ هذه المعلومات قد لا تكون كاملة. ويعلّق على عدم مقتل أيّ عنصر من "حزب الله" بالعملية المسبقة، ويقول إنّ ذلك يُشير إلى أنّ الأماكن المستهدفة كانت خالية، إمّا لأنّها غير مرتبطة بالردّ ولا عناصر داخلها، أو لأنّ منصّات الصواريخ الموجودة تعمل بأجهزة تحكّم عن بعد.
أمّا ملاعب، فإنّه يلفت إلى الرصد الإسرائيليّ الجوّيّ المدعوم بقدرات أميركيّة بريطانية والذي مكّن إسرائيل من كشف تحرّكات عناصر "حزب الله" وقصف مواقع، لكنّه يُشير إلى أن معظم منصّات الصواريخ والمسيّرات تحت الأرض، وبالتالي فإنها قد لا تكون تضرّرت إثر القصف الاستباقيّ.
ويعلّق ملاعب على التقارير التي تحدّثت عن قصف ألاف المنصّات الصاروخية، ويعود إلى دراسة معهد ريخمان الإسرائيليّ التي تقول إنّ "حزب الله" قادر على إطلاق 2500 صاروخ كحدّ أقصى في اليوم الكامل، وبالتالي الحديث عن إفشال إطلاق 6000 صاروخ جاهز للإطلاق دفعة واحدة غير منطقيّ ولا يُصرف لبنانياً أو إسرائيلياً.
هل حقّق الردّ توازن ردع؟
يُشير مراقبون إلى أنّ "حزب الله" طبّق معادلة تل أبيب مقابل الضاحية الجنوبية، وبعث رسالة مفادها أنّه قادر على الوصول إلى العمق الإسرائيليّ، بالتالي فإنّ استهدافه النوعيّ يحقّق جزءاً من توازن الردع، لكن تبقى الكلمة النهائية للنتيجة، فإذا تمكّنت إسرائيل من إفشال الردّ فإنّ ذلك يخلّ بالتوازن المطلوب، أمّا وفي حال نجح الاستهداف فإنّه لا شكّ أنّه يُرسي معادلات ردع معيّنة.
في هذا الإطار، يقول ملاعب إنّ وصول مسيّرات "حزب الله" إلى أهدافها بالرغم من التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ والدعم الأميركيّ بالأساطيل الحربيّة والطيران "يقضّ مضاجع إسرائيل" ويقلقها مستقبلاً، وذلك يعني أنّ "حزب الله" قادر على استهداف العمق الإسرائيليّ، وبالتحديد منطقة غوشدان "وهي الأكثر كثافة سكانيّةً"، وهي رسالة في حال قرّرت إسرائيل استهداف المدنيين في لبنان.
في المحصّلة، فإنّ القراءة العسكرية لردّ "حزب الله" تُظهر نقاط قوّته لجهة القدرة على تهديد مواقع استراتيجية في العمق الإسرائيليّ، لكن في الآن عينه تكشف نقاط ضعف كثيرة، بينها الانكشاف الأمنيّ الذي يواجهه الحزب، والذي يؤدّي إلى اغتيال قادته وتدمير بنيته التحتية، والقدرات الدفاعيّة الإسرائيلية لإحباط أيّ توغل صاروخيّ، وبالتالي فإنّ المشهديّة معقّدة وتستند إلى جزئيّات صغيرة في الميدان، وليس فقط ما هو على الورق.