تكاثر في الآونة الأخيرة الحديث عن دور المسيحيين في لبنان، خصوصاً بعد تزاحم عدد كبير من الملفات بدءاً بما يجري في الجنوب أو حرب غزة أو قرار الحرب والسلم أو الفراغ الرئاسي، وليس انتهاء بحضورهم الفاعل في الدولة.
أظهرت هذه الأحداث والملفات حجم التباعد بين المكونات اللبنانية، وتحديدا بين المسيحيين وغيرهم، حتى أضحى البعض يشبّه المرحلة الحالية بمرحلة الوصاية السورية، مع فارق أنه في السابق كان السوري يحاصرهم أما اليوم فهم يحاصرون أنفسهم.
يشعر المسيحيون بأنهم في حالة عزلة خصوصاً بعد ابتعاد عدد من الحلفاء عنهم، ومحاولات تخطيهم داخلياً في الانتخابات الرئاسية، أو القرارات المصيرية المتصلة بمستقبل البلد، وخارجياً عبر بحث الغرب في مصير الرئاسة أو الحدود.
هذه الأمور بمجملها يرافقها اقتناع شبه مطلق بأن الغرب الذي يعتبر الحليف الأكبر، لديه هم واحد هو حماية إسرائيل ولو على مصلحة المسيحيين، وقد عاد الحديث عن تفاهمات داخلية جدية يكونون شركاء فيها. وعلى هذا الأساس تحركت بكركي واستضافت ممثلين للأحزاب المسيحية لإطلاق وثيقة وطنية تطرحها على سائر الأفرقاء، يمكن أن تشكل منطلقاً لحوار فعال مع الجميع يعيد الحضور المسيحي إلى صلب المعادلة.
تنطلق هذه الوثيقة من دور لبنان التاريخي والحر الذي يتحول تباعاً إلى دولة دينية شمولية ايديولوجية. وتذكر بالثوابت التاريخية، كالحرية والتعددية والمساواة في الشراكة، واحترام اتفاق الطائف والقرارات الدولية والحياد واللامركزية الإدارية الموسعة وبسط سيادة الدولة على كل أراضيها وحماية حدودها، ووضع السيادة في حمى الجيش اللبناني والقوى الأمنية حصراً، وتبني استراتيجية دفاعية واضحة.
وعلى الرغم من التعثر الذي رافق بداية مشاورات اللجنة، علمت "النهار" أن الاجتماعات ستعود قريبا لإطلاق الوثيقة رسميا وفتح النقاش حولها لمحاولة التوصل إلى نتيجة. وبالتوازي مع نشاط البطريركية، يجري العمل بطريقة متسارعة وجدية لإعلان جبهة وطنية تضم عدداً كبيراً من الشخصيات والأحزاب المعارضة لـ"حزب الله" من الطوائف كافة، من أجل تثبيت نوع من التوازن، وإظهار أن المسيحيين ليسوا فئة منعزلة عن سائر الأطراف، بل هم حلفاء لطوائف أخرى".
ويقول أحد العاملين على تشكيل الجبهة لـ"النهار": "إنهم بخطابهم يمثلون السواد الأكبر من الطائفتين الدرزية والسنية بغض النظر عن رأي وليد جنبلاط".
وفي رأي عضو تكتل "الجمهورية القوية" النائب غياث يزبك أنه خلال مرحلة الحرب اللبنانية كلها لم تستطع جهة السيطرة على أخرى، والأمثلة في هذا المجال كبيرة جدًا.
ويقول لـ"النهار": "لا إجماع بين اللبنانيين على عزل السياديين، وخصوصًا المسيحيين منهم، وكل التجارب أثبتت من سنة 1969 إلى 2024 أنه لا يمكن محاصرة أي جهة أو طائفة، ومن يقومون بهذا الأمر يدمّرون الدولة والمؤسسات والسلم الأهلي، والمكسب صفر".
ويضيف: "جميع المحاولات عبر التاريخ لكسر الفئة السيادية أو المسيحية خرجت خاسرة، فعندما يُكسر المسيحي أو القواتي يُكسر لبنان، ومن يُرِد كسر لبنان فلن يكسب شيئًا آخر".
المعركة القائمة اليوم هي معركة متكرّرة وليست جديدة وفق يزبك، "وننصح من يُقدم على ضرب الحركة السيادية بأن يتوقف لأن محاولته لن تثمر، فالمسيحيون معركتهم هي معركة شعب لبنان وتمسكه بمحيطه العربي وفكرة لبنان القائم على التنوّع. هم متعلقون بالدستور ولا يريدون سوى الديموقراطية، وعندما نعامل بديموقراطية لا يكون لدينا مشلكة مع أحد، إنما هناك من يريد أن يتعامل معنا بديموقراطية عندما تُناسبه وبالسلاح لإحكام السيطرة عندما لا تُناسبه مواقفنا".
ويتابع: "معركة المسيحيين الرئيسية هي اليوم على الدستور. لا نستطيع التفاوض على الأساسيات ولا نرضى المسّ بالدولة عبر خزعبلات ونظريات فارغة، وهذا ما أثبتناه عبر التاريخ منذ القدم إلى وقتنا هذا، وقد أقصينا من الطائف بسبب هذه الخزعبلات".
لا يوافق يزبك على الحديث عن عزلة مسيحية، "فاليوم نلتقي مع الجميع ونبتعد عمّن يريد أن يخضع الجمهورية اللبنانية. يدعوننا إلى أمور تلغي الدستور وتثبّت أعرافًا خارجة عنه بهدف الإتيان برئيس طيّع بين يديهم يغطّي الدويلة والسلاح وكل ما هو خارج عن القانون، وعندما تعارضهم يصفونك بالانعزالي".
ويقول: "جرّبناهم في 2008 و2016 وفي كثير من المراحل ولم يأتوا إلا بالخراب. ورغم ذلك وضعنا خريطة طريق للحوار مع الجميع تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية وفق الدستور، وبعدها ينطلق الحوار في كل الأمور حتى في النظام. ولكن لن نقبل أن تُدار هذه القضية على طريقة الميليشيات، فعندما تكتمل المؤسسات نتفاهم ونتحاور برئاسة رئيس الجمهورية".
أما الوزير السابق كريم بقرادوني فيشير إلى أنه "تاريخيًا كان المسيحيون منقسمين، كل طرف مع جهة وجزء آخر يسمى قوة احتياط سياسية، وهم اليوم كذلك".
ويلاحظ أن "المسيحيين اليوم غير موحدين للحديث عنهم ككتلة واحدة، فجزء منهم مع الشيعة وجزء مع السنّة، وفئة قليلة في الوسط. ولقد انقسموا في السابق بين النهج والحلف وبقيت فئة في الوسط، واستطعات الإتيان بسليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية".
ويضيف: "المنطقة مقبلة على تغيّرات ولبنان في مقدّمها بسبب نظامه السياسي وتنوّعه وحركيته. لكن المشكلة عند المسيحيين تكمن في أنهم ما زالوا يتعاملون مع التغيّرات الكبيرة بأشكال تقليدية كالانتخابات النيابية والتحالفات وغيرها، من دون النظر أبعد".
تاريخيًا، حاول عدد من اللبنانيين محاصرة المسيحيين ونجحوا في فترة وجيزة بحسب بقرادوني، "لكنهم فشلوا لاحقًا، أمّا اليوم فالوضع مختلف لأنهم ليسوا معزولين ولا أحد يرغب في عزلهم".
ويختم: "عبر التاريخ أيضًا كانت هناك طائفة تطغى على غيرها، فقبل الطائف كانت المارونية السياسية وحلفاؤها، وخلال مرحلة التسعينيات مررنا بالسنّية السياسيّة، واليوم علينا الاعتراف بأننا ضمن مرحلة الشيعيّة السياسيّة وتقبّل هذا الأمر والتعامل معه".