تحلّ اليوم الذكرى الثانية والأربعون على اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل، بعد واحد عشرين يوماً على انتخابه رئيساً على وطن شلّعته الحروب والانقسامات والتدخّلات الخارجيّة.
في ذلك اليوم، بعد ظهر الـ14 من أيلول، قال المؤرّخ والكاتب جوزف أبو خليل من على أثير إذاعة "صوت لبنان" المملوكة من حزب الكتائب، "لقد مات الحلم"، معلناً نجاح عملية الاغتيال ومقتل بشير الجميّل.
قد يكون بشير من أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في تاريخ لبنان الحديث، إلّا أنه تحوّل إلى ظاهرة فريدة في التاريخ اللبناني، استطاعت تحقيقها شخصيّة بعمر صغير وسنوات قليلة في السياسة والعسكر، ولا تزال مستمرة بعد عشرات السنوات من وفاته.
ذلك الشاب، الذي كان على رأس فصيل عسكري مسيحيّ، حفر عميقاً في الوجدان اللبناني بشكل عام، والمسيحي بشكل خاص، ليُصبح بعد غيابه، ولو بعشرات السنوات، حالة سياسية فكرية قائمة بحدّ ذاتها، تتجاوز الأحزاب والتيارات والبوتقة التي خرج منها؛ وهذا ما يعبّر عنه جيل من الشباب لم يعرف بشير، وولد بعد وفاته، ويعتبره أيقونة سياسية، وحلم يسعى إلى تحقيقه.
لم يكن بشير قدّيساً كما يحلو لبعض المتحمّسين وصفه، ويمكن الحديث عن أخطاء هائلة خلال مسيرته السياسية، والتي تركت جروحاً ضمن الجسم المسيحيّ لم تندمل حتى يومنا هذا، إلاّ أنه حوّل المجتمع المسيحيّ مجتمعاً مقاوماً، يُدرك الدوافع التي كانت تحرك ذاك الرجل، ويعرف كذلك السرّ الكامن في أعماقه.
سمات كثيرة طبعت شخصيّة بشير الجميل، وأسهمت في تكوين عناصر هائلة، أضفت عليه كاريزما لا تقاوم، فأصبح القائد الأكثر شعبية من دون منازع في فترة زمنية. لكن الأهم كان الانتقال السريع من قائد عسكريّ لجزء من اللبنانيين إلى رئيس لكلّ اللبنانيين؛ وكان أول من تحدث عن لبنان أولاً، وعن 10452 كلم واحدة، لا فيدرالية ولا فينيقية.
يقول الوزير الراحل سجعان قزي إنه في عهدِ الواحدِ والعشرين يومًا حَقّق بشير دولةَ لبنان الكبير، ودولةَ لبنان المستقِلّ، ودولةَ لبنانَ المقاوِم، واستَوعَب كلَّ الأحاسيسِ والحساسيّاتِ اللبنانيّة. قال للّبنانيّين: تعالَوا، لبنانُ وحدَه يُريحكم. تعالَوا من فينيقيا والعروبة، من المسيحيّةِ والإسلام، من اليمينِ واليسار، تعالَوا من الهوّياتِ القاتلةِ والقوميّات التجريديّة. ضَعُوا جميعَ عقائدِكم في العَقدِ اللبناني، وانسَوا كلَّ شيءٍ، فحيثما يكون قلبُكم يكون وطنُكم، فاختاروا، وويلٌ لمَن يُشرِك".
وبرأي قزي أن "بشير كان يطمح إلى بناء دولة لبنانية قويّة ومهابة من الجميع، يحترمها المواطنون والأخصام مروراً بالأشقاء والحلفاء والأصدقاء". كانت لبشير نظرة إنسانية لا طائفية إلى المواطنين، و"لذلك حرص على رفع مبدأ المساواة والعدالة والكفاءة فور انتخابه رئيساً للجمهورية. ولكنّه كان يؤمن بأنّ أيّ علاقة مع الآخرين إن لم تكن محصّنة بقوّة الموقع وصلابة الموقف، تكن بحقيقتها علاقة التحاقية".
بدوره، يقول رئيس حزب الكتائب السابق كريم بقرادوني إن "بشير يستمرّ، بعد أربعة وأربعين عاماً رمزاً للمقاومة. وهناك بعض العقائديين والحزبيين أمثال القومي السوري، وبعض الشيوعيين، يستخدمون صفة لا تليق ببشير. أعتقد أن مثل هذا الكلام قديم وغير واقعي بدليل أن بشير كان أول من رفض توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل. وهذا ما عرفه المسلمون والمسيحيون. وصائب سلام قال لي شخصياً بعد لقائهما: وين كنتو مخبّيينو؟ بشير الجميل كان يقول دائماً: مهمّتي الأولى تحرير لبنان من الفلسطيني والسوري والإسرائيلي. محبّو بشير أصبحوا في 21 يوماً كثراً، وفي اعتقادي أن الرأي العام العربي، بين عامي 1982 و2024، أصبح في مكان آخر مختلف تماماً".
يضيف، "وُجد بشير في مرحلة منطق الحرب فيها هو الأقوى. لم تكن بالتالي الحال كما هي اليوم. وفي مرحلة الحرب ومنطق الحرب يكون منطق القوة هو الأقوى، وإذا لم تعرف كيف تدافع عن نفسكِ فلن تستطيع الصمود. وهذا المنطق ينطبق على الجميع. والتوازن مطلوب. بشير وجد نفسه في الحرب ولم يخترها".
ويرى بقرادوني "أن حالة بشير لم تكن عادية. وهو كان دائما استثنائياً حتى أن الخصوم كانوا يسألون دائماً: كيف تمكن بشير من جعل المنطقة الشرقية قويّة بهذا القدر".
اليوم، الظرف تغيّر، لكن بشير لا يزال عميق الجذور في ضمير عدد كبير من اللبنانيين، خصوصاً هؤلاء المرتبطين بلبنان المقدّس والمؤمنين بالحريّة التي تمسّكوا بها طويلاً.