تمكّن الخبراء الأمنيون والعسكريون وحتى السيبرانيون من تحديد النظريات والفرضيات الأكثر ترجيحاً لجهة كيفية انفجار أجهزة الاتصال اللاسلكي التابعة لعناصر "حزب الله"، وكيفية وضع المتفجرات داخل الأجهزة وإيصالها إلى لبنان، وتمكّنوا أيضاً من قراءة الرسائل التي أرسلتها إسرائيل إلى الحزب، لكن بقي سؤال لا إجابة واضحة عنه، "لماذا الآن؟"
لم تُعلن إسرائيل عن مسؤوليتها ووقوفها خلف العملية، لكنها لم تنفِ ذلك، فبقي السؤال اللغز لماذا لجأت إسرائيل إلى هذا التوقيت ونفّذت عمليتها؟ لماذا لم تنتظر لتنّفذها قبل هجوم برّي قد يحصل في المدى القريب أو المتوسط لتحقيق مكاسب أكثر مع جرح أكثر من 4000 عنصر وإخراجهم من الخدمة، فتحقق بذلك تفوقاً ميدانياً؟ كلها أسئلة مشروعة طرحها مراقبون.
قبل 17 أيلول، لم يكن ثمّة مؤشرات تشي بأن إسرائيل ستشن عملية واسعة ضد لبنان لجملة من الأسباب، أولاً إن حرب غزّة لم تنتهِ والثقل لا زال يتمركز في القطاع رغم نقل عديد وعتاد إلى الشمال، وثانياً إن إسرائيل تعيش حالة من الاضطراب السياسي، وصل إلى ذروته مع نقل الإعلام العبري معلومات مفادها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يُقيل وزير الدفاع يوآف غالانت.
إلّا أن المتغيّر الوحيد الذي كان يستحق التوقف عنده هو تحديث الكابينيت الإسرائيلي أهداف الحرب، وإدراج بند إعادة سكّان الشمال إلى مستوطناتهم، دون تحديد كيفية فعل ذلك، وفي هذا السياق، ربط مراقبون عملية "بيجرز" بالهدف المستحدث، واعتقدوا أنّه أسلوب جديد للحرب يزيد من الضغط على "حزب الله" ويدفعه شمالاً بعيداً عن الحدود مع إسرائيل.
ماذا يقول عالم الاستخبارات؟
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية حاولت الإجابة عن السؤال "لماذا الآن"، ولجأت إلى عالم الاستخبارات الضليع بهذا النوع من العمليات، واستعانت بخبراء أمنيين إسرائيليين سابقين يعرفون كيف يفكّر العقل الإسرائيلي، وقد يكونون أدوا أدواراً سابقة وقاموا بعمليات مُشابهة في الماضي، خصوصاً وأن تاريخ إسرائيل حافل بالعمليات الاستخباراتية النوعية.
أوديد إيلام، وهو عميل سابق في الموساد أشرف على عمليات مكافحة الإرهاب الدولية، يقول إن غياب أي عملية عسكرية كبيرة من جانب إسرائيل في الساعات التي أعقبت الانفجارات الأولى يشير إلى أن "التوقيت لم يكن الأمثل"، وفي هذا إشارة إلى أن إسرائيل لم تقم بأي اجتياح برّي بعد العملية كما توقّع كثيرون، ولم تستفد من إصابة 4000 عنصر من "حزب الله" وغيابهم عن الميدان.
وبالتالي، يُمكن قراءة واقع أن إسرائيل لم تكن أمام خيارات متعدّدة، بل أمام خيار واحد وهو تفجير الأجهزة. هذا الواقع يتقاطع مع معلومات نقلها موقع "واللا" عن ثلاثة مسؤولين أميركيين كبار، قالوا إن إسرائيل "قرّرت تفجير مئات أجهزة الاتصال التي كان يستخدمها مقاتلو "حزب الله" في لبنان وسوريا، خوفاً من اكتشاف الحزب للثغرات الأمنية في هذه الأجهزة".
ونقل عن مسؤول أميركي رفيع، الذي وصف الأسباب التي قدمتها إسرائيل للولايات المتحدة في ما يتعلق بتوقيت الهجوم أن "إسرائيل كانت أمام خيارين: إما استخدام أجهزة الاتصال المزروعة أو فقدان الفائدة منها". هذه الأقوال أيضاً تتقاطع مع معلومات غير مؤكّدة عن اكتشاف "حزب الله" الخرق، وبالتالي اضطرار إسرائيل لتنفيذ العملية في وقت سريع قبل تخلّص العناصر من أجهزتهم.
من جهته، قال مستشار لمديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وقائد كبير سابق في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي لصحيفة "واشنطن بوست" إنه بمجرد الانتهاء من عملية تفخيخ الأجهزة وإرسالها إلى لبنان وتوزيعها على عناصر الحزب، "كان الوقت المتاح للتحرك محدوداً، لأن مستوى الشكوك مرتفع، ولا يتطلب الأمر سوى انفجار واحد "غير مقصود عن طريق الخطأ" لكشف العملية".
وقد ردد مسؤولون سابقون آخرون في الاستخبارات الإسرائيلية هذا الرأي، قائلين إن مثل هذه العمليات، التي يستغرق إعدادها فترات طويلة، "يكون لها مدة صلاحية قصيرة لإطلاقها". وفي حالة أجهزة النداء المتفجرة، "ربما كان قرار "حزب الله" بالتحوّل إلى ما اعتقد أنه أجهزة أكثر أماناً وأقل تقنية بعد موجة من الاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة بمثابة فرصة سانحة" للقيام بالعملية، كما أوضح إيلام.
وقال: "إنك تحتاج إلى الحد الأدنى من الوقت بين التثبيت والضغط على الزر" وبالتالي تنفيذ الانفجار، حتى لا يتم كشف العملية.
وبرأي عميل الموساد السابق نفسه، إن الاعتبارات الاستراتيجية، مثل احتمال نجاح العملية في تحقيق أقصى قدر من التأثير، تحتاج إلى "الموازنة" مع خطر تعرّض العملية للفشل، ووصف الهجوم بأنه "بيرل هاربور" لحزب الله.
في سياق الأراء نفسها، ومن وجهة نظر عربية، تكهن مسؤولون أمنيون واستخباراتيون أن حزب الله "اكتشف مشكلةً في أجهزة النداء"، وأن إسرائيل كانت أمام لحظة "استخدمها أو اخسرها"، وخلافاً لهذه المشهدية، فإن توقيت الهجوم لم يكن منطقياً، وفق المسؤولين الأمنيين.
فرضيات كثيرة حول التوقيت
إلّا أن مجلّة "فورين بوليسي" الأميركية استعرضت أكثر من احتمال حول مسألة توقيت العملية، "قد يكون الهجوم بمثابة البداية لحملة عسكرية إسرائيلية طويلة، أو قد يكون مجرد عملية سرية جديدة في حرب الظل الطويلة الأمد بين إسرائيل ووكلاء إيران، ومن المحتمل أيضا أن الإسرائيليين هم من أطلقوا العملية لأن هناك حداً زمنياً لمدى استمرارها دون اكتشافها".
الفرضية الثانية، وهي مجرّد عملية سرّية جديدة بين "حزب الله" وإسرائيل ليست بعيدة عن الواقع أيضاً، خصوصاً وأن الحروب الموازية للحرب العسكرية، أي الحروب الأمنية والسيبرانية والنفسية، على أوجّها بين إسرائيل ومجموعات إيران وليس فقط "حزب الله"، وتصعيد الصراع يتطلّب نقل المواجهات إلى مستوى متقدّم، تبقى لإسرائيل اليد العليا فيها.
وتطرّقت المجلّة إلى تبعات عملية تفجير "بيجرز"، وهي "تضعضع سيطرة "حزب الله" بسبب انقطاع التواصل بين قيادته وعناصره، بالإضافة إلى إخراج العديد من العناصر عن الخدمة، وقد يؤدي ما حصل إلى تغيير طريقة تواصل مجموعات إيران مع بعضها، وهو ما قد يؤثر على التنسيق ويعوق قدرتها على شن هجمات خاصة بها.
هذه النقاط بحد ذاتها قد تكون عاملاً يدفع لتنفيذ التفجيرات في هذا الوقت، فإسرائيل تسعى لإضعاف محور إيران، وأعلنت ذلك مراراً، وقد تكون المرّة الأبرز خطاب نتنياهو في الكونغرس، وهذه العملية قد تكون خطوة في هذا المسار الطويل، لفرض معادلات جديدة، وبالتالي فإن الجواب على سؤال "لماذا الآن" ليس محسوماً، لكن هذه فرضياته.