إعداد: لوسيان شهوان
700 يوم، ولبنان من دون رأس للسلطة ورئيس للبنانيين. بغياب الرئيس اللبناني، الضمانات الوطنية مفقودة والدستور منسي في دهاليز "البدع الإنقاذية" غير الدستوريّة، وفي حسابات وخيارات الحرب المدمّرة التي زُج لبنان في جولاتها، وهو الذي لم يجد بعدُ حلولاً لجولاته منذ أن سُلبت أموال اللبنانيين مع "سرقة العصر" في الأعوام الأربعة التي مضت، وأزمة حكم وحكّام و"انفجارات" دائمة من المرفأ إلى المرافق كلّها، في ظلّ غوغائيات سياسية عصفت في الفضاء السياسي ولم تٌنتج شيء... لبنان بلا رئيس، أي بلا انتظام وبلا مؤسسات والشرعيّة اللبنانية في هذه الحال غير قادرة على شيء إلا على انتظار فرج إقليميّ ودوليّ يوقف الحرب بين إسرائيل وحزب الله، فيستعيد لبنان عافيته ويصبح وحده "القادر" على انتخاب رئيس جديد للبلاد يٌطلق عجلة الدولة وجولات المصارحة بين اللبنانيين.
بانتظار "الرئيس"، نعود معكم إلى محطّات من تاريخ لبنان، محطّات مواكبة "النهار" لبعض رؤساء الجمهوريّة في التاريخ اللبناني المجيد. لـ"لنهار" موقفها من الرؤساء ومن عهودهم وصداقاتها وخصوماتها معهم، في محطّات كثيرة كانت مساهماً أساسياً في صناعة العهود وفي محطّات مفصليّة أخرى كانت رأس المعارضة لحدود التضييق عليها وتعطيلها وسجنها ومحاكمتها. نتشارك معكم بعضاً من تلك التجربة التي خاضتها "النهار" بصدق وحقيقة كما اعتادت ان تفعل، مستندين على "الحديث السابع" في كتاب "سرّ المهنة... وأسرار أخرى" للأستاذ غسان تويني، عملاق الصحافة اللبنانية.
بداية جمهوريّة الاستقلال... "النهار" والرئيس بشارة الخوري
من التأييد مع جبران اندراوس تويني في فترة تولي الشيخ بشارة الخوري الرئاسة إلى معارضة عهده من خلال سلسلة مقالات بعنوان "هذا العهد" وانتقادات أخرى وصولاً إلى تعطيل الجريدة مرّات عدّة.
بعد رحيل المؤسس جبران تويني، وتولي نجله غسان تويني رئاسة تحرير "النهار" بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية، استمرّت النهار في موقع المعارضة للعهد إلى حين موعد انتخاب غسان تويني نائباً عام 1951، وما تلاه من حوادث مع ولادة "الجبهة الاشتراكية الوطنية" المُعارضة لعهد الخوري، والحملات التي خاضها غسان تويني ضد أداء العهد ومعه "النهار" في صفحاتها، وصولاً إلى "الثورة البيضاء" واستقالة الشيخ بشارة الخوري في عام 1952.
في 21 أيلول (سبتمبر) 1949، توجهت "النهار" بافتتاحيتها إلى الرئيس بشارة الخوري، بعنوان "الرئاسة ودورها الدستوري"، متوجهة إلى الرئيس المُمددة ولايته بعد تعديل دستوري سعى إليه الخوري مع ضمانته للأكثرية النيابية الموالية للعهد في المجلس في انتخابات 25 أيار (مايو) 1947، والتي سُميت بـ "الانتخابات المزوّرة". وبحسب المؤرّخ كمال الصليبي في كتابه "تاريخ لبنان الحديث"، "فإن وطأة الفساد في تلك الفترة بالذات ازدادت ازدياداً واضحاً، فعمّت المتاجرة في النفوذ، وكثرت الفضائح. وما ساعد على انتشار الفساد صِلات الصداقة والقربى التي جمعت بين رئيس الجمهورية وكبار رجال الأعمال..."، فعلت الأصوات الرافضة للواقع المهين، فما كان أمام كميل شمعون وكمال جنبلاط سوى خيار المعارضة. وبعد مرور عام واحد على هذه الانتخابات، تشكلت "الجبهة الاشتراكية الوطنية" مع غسان تويني وبيار إدّة وأنور الخطيب التي أسقطت الرئيس بشارة الخوري قبل نهاية ولايته المُمددة في عام 1952.
أبرز ما جاء في افتتاحية 21 أيلول (سبتمبر) 1949: "... وانه لمن مفارقات السياسة اللبنانية أن يستهل فخامة الرئيس ولايته الجديدة التي مهّد لها بتعديل الدستور وثمة من يطعن في شرعيّة رئاسته مفسداً على العيد معناه... أنه ولا ريب مما يؤلم اول رئيس دستوري في لبنان بل مما يؤلم كل لبناني مخلص أن يقال إن أول مجلس انتخب في عهد الاستقلال كان مجلساً مزوراً وأن القصد من تزويره إنما كان ضمان اكثرية نيابية تعدّل الدستور بحيث يتمكن الشيخ بشارة الخوري من البقاء في كرسي الحكم... إنها إذاً أمنية نتوجه بها إلى الرئيس وهو الذي عاهد المجلس يوم جُددت له الولاية، بأن يكون الخادم الأمين للشعب اللبناني الأبي النبيل فيومّن التطور المطرد من الحسن إلى الأحسن ويحقق ما يصبو إليه الشعب من إصلاح واسع شامل. إنها أمنية نتوجه بها إليه، أن تأتي هذه الولاية الجديدة حافلة بالأحداث التي تكفّر عن نشأتها في نظر الذين يلصقون بها وصمة التزوير. ولسنا نرى في دستوريّة الرئيس ما يعفيه من هذا الواجب، فإن جوهر الحكم الديموقراطي هو في كون الحكم امانة يضعها الشعب بين يدي الحاكم، يسأله عنها ويحاسبه على تأديتها... والتاريخ يا فخامة الرئيس هو تلك الاجيال الطالعة التي تؤكد اليوم إرادتها بالاشتراك مع سياسة دولتها. إنها يا فخامة الرئيس ترجو أن تترك لعل بقية من الرجاء بأن الدولة التي لم يستقم صرحها في ست سنوات ليس صرحها بمستحيل الإشادة".
في 18 أيلول (سبتمبر) 1952، أعلن الرئيس بشارة الخوري استقالته تحت الضغط الشعبي والسياسي المعارض لعهده. وبعد يومين على استقالته وتسلّم قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الحكم المؤقت، عنونت "النهار": "حَكَم، لا حاكم!"، وأرادت "النهار" من افتتاحيتها آنذاك أن تعتبر أن استقالة الرئيس الخوري والانقلاب اللبناني ليس انقلاباً عسكرياً "لمجرد وجود قائد الجيش على رأس الحكومة التي تمارس صلاحية رئيس الجمهورية بعد استقالة الرئيس... والواقع أن الانقلاب اللبناني لا يمكن احداً ادعاء أبوته، فقد كان انقلاباً شعبياً، تم خلال حركة شعبية برلمانية تأثر بها الجيش، فرفض الوقوف في وجهها اولاً، ثم عاون في إيصالها إلى غايتها السلبية... أن الحكمة تقضي بأن يكتفي قائد الجيش وقد وصل إلى الحكم دستورياً بتأمين اكتمال اللعبة الدستورية وعودتها إلى حالتها الطبيعية..."
العهد الذهبي... "النهار" والرئيس كميل شمعون
يقول غسان تويني إن "الرئيس كميل شمعون، كما الشيخ بشارة أيام جبران تويني، كان في عهدي، هو رئيس النهار: هي منبره في المعارضة وحليفه في المجلس والداعية له في انتخابه"، ولكن الأمر لم يستمرّ، فتردّت العلاقة مع العهد الشمعوني وقد قادت النهار حملات معارضة للعهد وكانت منبر كل المعارضين منهم حميد فرنجية وبيار إدة وسامي الصلح، وطبعاً غسان تويني.
ويتذكر غسان تويني أزمة الحكم التي عاشها العهد في مرحلة معيّنة إبان حكومة عبد الله اليافي الائتلافية التي لم تدم بعد أن دخلها وزيراً مع بيار إدّة وحميد فرنجية وسامي الصلح، فهذه الحكومة لم تدم بسبب استقالة حميد فرنجية متهماً شمعون بخيانته بينما كان هوفي زيارة إلى القاهرة الامر الذي أدى ببيار إدّة إلى اللحاق به فسقطت الحكومة وعاد المعارضون القدامى إلى صفوف المعارضة. يشير غسان تويني إلى أن علاقته و"النهار" بالرئيس شمعون "بين مدّ وجزر"، إلى أن حلّ موعد انتخابات عام 1957 وما تبعها من انقسامات عاموديّة في لبنان بين مؤيد للمدّ الناصري وحركة عدم الانحياز وبين مؤيد للغرب وحلف بغداد ومنهم الرئيس كميل شمعون. مع محاولة الانقلاب على الرئيس كميل شمعون في عام 1958، اتخذت "النهار" تموضعاً جديداً عُرف آنذاك بـ "القوّة الثالثة"، فرفضت الانقلاب على شمعون كما رفضت التمديد له. أيّدت "النهار" آنذاك سياسة شمعون الخارجية المناهضة لعبد الناصر، لكنها كانت ضد خيارات العهد الداخلية.
تعمّق الخلاف بين "النهار" وشمعون على خلفيّة افتتاحيّة "النهار" التي عبّرت عن موقف "القوّة الثالثة" بأنه "ليس بالأساطيل تقاوم الثورات..."، وقد تكوّنت هذه "القوّة" من صحافيين وسياسيين أمثال هنري فرعون وتقي الدين الصلح ويوسف سالم وشارل حلو ومحمد شقير ويوسف حتي وجورج نقاش. احترم غسان تويني الرئيس كميل شمعون كثيراً بالرغم من الخصومة السياسية التي وقعت بينهما في نهاية العهد الشمعوني، لكن الأمور عادت لمجاريها في انتخابات عام 1960، وعادت "النهار" لتكون "منبر الرئيس كميل شمعون" و "مكتبه" كما كان يقول غسان تويني، وساندته في معارضته العهد الشهابي. اقترب الرئيس شمعون كثيراً من "النهار"، لكن غسان تويني لم يخفِ شعوره انه "هو و’النهار‘ أكثر ثقة بشمعون من ثقة شمعون به وبـ’النهار‘".
يقول غسان تويني: "الحقيقة انني تعلّمت السياسة من كميل شمعون، السياسة بالمعنى اللبناني للكلمة. لا أعرف إذا كنت تعلّمتها جيداً، لكنه كان يقول عني إنني تلميذه... ولعلّه حاول اختبار ذلك باستدراجي إلى محالفته انتخابياً أيام الحلف الثلاثي عام 1968، فكانت النتيجة أن سقطت في الانتخابات وربما في الفحص ولكن لم أسقط في صداقته". التقى الرجلان في الحكومة في عام 1976، وتوافقا في ملفات كثيرة كما اختلفا أيضاً بسبب أخرى. غسان تويني و"النهار" كانا ضد الحرب، بينما كان لكميل شمعون مقاربة أخرى ونظرة أخرى لحماية لبنان والدفاع عنه لذلك انخرط في الحرب وكان أحد رموزها الأساسيين.
"من داعم للعهد لسجين في العهد"... "النهار" والرئيس سليمان فرنجية
يُنسب إلى "النهار" وغسان تويني أنهما صنعا رئاسة سليمان فرنجية، لكن غسان تويني رفض ما قيل في هذا الأمر واعتبره "تشنيعاً سخيفاً...". لكن الحقيقة هي أن "النهار" كانت أحد أبرز الداعمين ومنبراً مهماً في طريقه إلى الرئاسة، ويُذكر أن "النهار" عنونت قبل سنتين تقريباً من انتخاب فرنجية رئيساً للبلاد: "سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية".
كانت "النهار" حاضنة للاتفاق على اسم فرنجية للرئاسة الأولى قبل فوزه بها، فلعبت آنذاك دور الجامع بين التعدّدية الحزبية السائدة حول مشترك اسمه سليمان فرنجية. عشيّة انتخابه، وهو الذي فاز بصوت واحد في عام 1970 على الشهابية وامتداداتها في السلطة، التقى في مكاتب "النهار" رئيس المجلس النيابي آنذاك كامل الاسعد ومع الرئيس صائب سلام، واتفقوا على أن الأوفر حظاً للرئاسة هو فرنجية. والتقى أيضاً في مكاتب "النهار" كلاً من الرئيس كميل شمعون والرئيس سليمان فرنجية للمرّة الأولى منذ حادثة مزيارة. بعد فوز فرنجية في الرئاسة، عنونت "النهار" في أحد مقالاتها "الصوت الواحد صوت الشعب" في إشارة منها إلى أهميّة الانتخابات التي حصلت والتي تمّت بدفع من الشعب اللبناني المواكب للأصوات التي حصل عليها في جلسة الانتخاب.
سُئل غسان تويني مرّة عن أهم مقال كتبه في عهد الرئيس سليمان فرنجية، فكان جوابه أنه متأرجح بين مقالين: واحد فيه ردّ أدبي جداً على الرئيس، صاحب شعار "وطني دائماً على حقّ" فجاء عنوان الافتتاحية يغنيك عن المضمون، "قد لا يكون وطني دائماً على حقّ، ولكني دائماً مع وطني"... أما المقال الثاني فكتبه في عام 1973، وهو في سجن الرمل، بعد ان اتُهم بـ "الخيانة العظمى"، وعنونه: "من غسان تويني وراء قضبان السجن: إلى العهد مع محبتي"، وأبرز ما جاء فيه: "... نخشى أن يكون الحكم قد سلك طريقاً معيناً على المفترق، الطريق الخطر، طريق المنزلق نحو الاستبداد... في حين ان ميزة الحكم الكبيرة عندما يكبر الحاكم ويكون بالفعل شورى، أن يتحرّر الحاكم من مزاجه، خصوصاً إذا كان غضوباً...
وللذين يشتمون بي، حتى لو كانت شماتتهم عن محبة، أقول إن قلبي خصوصاً خلف القضبان الحديدية معيناً من الصفاء والراحة النفسية والاطمئنان... بقيت، من السجن، حسرة واحدة... إنني لم أجد هنا، بين البؤساء، ولا واحداً من الذين صنعوا بؤس الشعب... ولم أجد محتكراً واحداً!
لم أجد واحداً من الذين يتاجرون بحياة المواطنين، بخبزهم، بالماء، بالدواء، بالأرز، بالسكر، حتى الرمول والبحص ناهيك بالخشب والحديد وبكل شيء يأكله الفقير أو يعمّر به بيته!
ولم أجد ولا واحداً من الذين يستغلون هذا العهد ويستحلبون خيراته ويتفيأون ادعاء حمايته حتى يسرقوا أموال الشعب! ولم أجد أخيراً، ولا واحداً من الذين رأيت أصابع الاتهام تتوجه إليهم حيث ما ذهبت...".
واعتبر تويني "أن الافتتاحية هذه من أفضل ما كتبت، بأسلوب واضح وعملي، في الدفاع عن الحريات والديموقراطية".
مرّت العلاقة بين الرئيس سليمان فرنجية وغسان تويني و"النهار" بخضّات كبيرة، كما شهدت فترات من الهدنة والتقارب. تويني الوزير استقال من حكومة العهد الأولى في عام 1971 بعد تباين في وجهات النظر مع الحكومة، بسبب إصلاحات تربوية أرادها وزير التربية غسان تويني ورفضتها الحكومة آنذاك. في تلك الآونة، انطلقت تظاهرات طلابية عمّت بيروت، وأراد تويني تلبية بعض مطالبها فلم يتحقق له ذلك... فانسحب من الحكومة التي عاد إلى مقاعدها في عام 1975، توازياً مع اندلاع الحرب اللبنانية.