لم تمر إطلالة الصحافيات اللبنانيات خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان في مقر السفارة الإيرانية عقب انتهاء زيارته لبيروت الأسبوع الماضي، مروراً عادياً في مواقع التواصل الاجتماعي. ليس فحوى الزيارة ودلالاتها، بالتزامن مع انسداد الأفق في ملف الشغور الرئاسي، والاقتتال الحاصل حول شخص الرئيس، وحده ما استوقف الناشطين، بقدر ما استوقفهم ارتداء الصحافيّات اللبنانيّات للحجاب لحضور المؤتمر.
صورة واحدة نشرها أحد المصوّرين الذين كانوا في السفارة، مرفقة بتعليق "صحافية تغطّي رأس زميلتها، امتثالاً للعادات الإسلامية داخل السفارة الإيرانية، خلال المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان في بيروت"، أشعلت كمّاً هائلاً من التعليقات المتباينة بين مؤيّد ورافض، بعضها اعتبر أن وضع الحجاب "أمر طبيعي لأن هناك بروتوكولات لكل سفارة، دون استغلال حضورهنّ لتنفيذ مهمّة استعراضية لأهداف سياسيّة بعيدة عن الإعلام"، والبعض الآخر اعتبر أن "اضطرار إعلامية لبنانية لارتداء الحجاب لتغطي خبراً في السفارة الإيرانية في وقت تُقتل فيه المرأة في إيران لعدم ارتدائها الحجاب، هو سير نحو المزيد من القمع والإعدام".
كما كل حدث، كما كل ملف، كما كل قضيّة، صار "حجاب السفارة"، كما وصفه البعض، خبراً لتسجيل النقاط بين الخصوم، حيث أعاد البعض نشر صورة لزيارة السفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي شيا، المجلس الأعلى للإسلام الشيعي في لبنان، إلى جانبها مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في لبنان، ماري إيلين، وهما ترتديان الحجاب. كذلك استذكر البعض الآخر رفض مذيعة الـ"سي أن أن" كريستيان أمانبور، ارتداء الحجاب أثناء إجراء مقابلة مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في نيويورك، وإلغاء المقابلة.
وفي المقلب الآخر، نشر عدد من الناشطين صوراً لميلانيا ترامب مرتدية الحجاب أثناء لقاء بابا الفاتيكان، لافتين إلى أن "الفاتيكان ينتهج أيضاً بروتوكولاً ومراسم صارمة أثناء لقاء البابا، والبيت الأبيض على علم بهذا البروتوكول ويتّبع هذه المراسم".
ونشر البعض أيضاً الآخر صور النجمة الأميركية أنجلينا جولي مرتديةً الحجاب أيضاً في زيارات عدّة لدول إسلامية كان هدفها تقديم المساعدة والتعاون.
لم يلتفت القسم الكبير ممّن شغلتهم هذه الصورة إلى الأكيد المؤكد، بأنّ لبنان ليس ببلد الحريّة كما يطيب لنا أن نتخيّل، أو كما نحبّ أن يكون. ولا هو البلد القادر على رفع الصوت للمطالبة بوقف كل أشكال العنف والتنكيل الذي تتعرّض له النساء في مختلف أنحاء العالم، وفي إيران تحديداً منذ مقتل الشابّة مهسا أميني واندلاع الاحتجاجات. ولا هو الوطن الذي يحمي نساءه من الظلم أساساً. وحبّذا لو كان كذلك! ولكن هل كان بإمكان الصحافيّات اللواتي حضرن المؤتمر تسجيل موقف يبعثن من خلاله رسالة معنويّة للنساء هناك؟
قد لا يستهوي البعض القول إنّ قلّة قليلة ممّن طالبوا بوقف حملات القمع ضد النساء في إيران كانت نابعة حقاً من الحسّ الإنساني والواجب الأخلاقي الذي يحتّم على أي إنسان الوقوف في وجه تلك الحملات ولو رمزياً ومساندتهنّ معنوياً في قضيتهنّ بعيداً كل البعد عن دهاليز السياسة. فالصور ومقاطع الفيديو التي وردت من هناك كانت وما زالت خير دليل على اللعنة التي تتكبّدها أي سيدة يهدر صوتها لتدافع عن أبسط حقوقها، أن تقرر ماذا تفعل بشعرها!
إلّا أنّه في بلد كلبنان، ما عاد يحتمل حتى تسجيل المواقف ولا تباين وجهات النظر ولا حتى مناصرة القضايا، فضّلت الصحافيّات حضور المؤتمر لإتمام الواجب المهنيّ، حيث طرحن أسئلتهنّ وغادرن دون علمهنّ ماذا ينتظرهنّ في الخارج!
تقول الصحافية سالي قرفلي التي كانت حاضرة في السفارة خلال المؤتمر الصحافي لعبداللهيان، في حديث لـ"النهار": "اللقطة أُخذت وانتشرت. وأنا أحترم كل ما قيل على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن الموضوع طبيعي جداً. أنا كمراسلة يُفترض أن أراعي المكان والقوانين الموجودة فيه".
وتضيف: "كانت هذه المرة الأولى التى أدخل فيها السفارة، ولم أفكّر حتى في موضوع الحجاب. طلب منّا المسؤول الإعلامي إبراهيم حرشي وضعه لأن هذا قانون إيران، وبروتوكل السفارة. وساعدتني زميلتي ريما حمدان على ارتدائه".
تشير قرفلي إلى أنّها في العديد من تغطياتها تراعي البيئة الموجودة، وتؤكد أنّ "تأييد ما فعلناه أو رفضه لا يلغي فكرة احترام ثقافة الآخر"، وتقول: "كان من الممكن أن يكون قرار تسجيل الموقف مأخوذاً قبل دخولي حرم السفارة، ولكنّ ما فعلته هو أنني أنجزت عملي. كما أنّ رفضي للدخول بدون حجاب سيحرمني من طرح أسئلتي التي أردت توجيهها".
فضّلت الزميلة جويس عقيقي عدم التعليق على الموضوع، أمّا زميلتها ريما حمدان فاكتفت بالقول لـ"النهار": "الموضوع أخذ أكثر من حجمه، وحقيقة لا أودّ التعليق فمن لا يرغب في وضع الحجاب كان يمكن أن يرفض المهمّة الموكلة إليه قبل التوجّه إلى حرم السفارة وهذا تسجيل موقف، فهل يُعقل اليوم أن أتوجّه إلى مهرجان "كان" مثلاً بثياب السباحة؟".
سيّدات قويّات في إيران خضن كافّة أنواع الجرأة بوجه التهديد والتضييق الذي أوصلهنّ إلى الموت، وبشكل لا ينتظر شهادة أحد. أمّا نحن القابعين هنا في عتمة السجالات التي ما تلبث أن تختفي حتى يظهر غيرها، وإن كنا جادّين حقاً في محاربة الظلام والتخلّف، فعلينا أن ننصر أنفسنا قبل نصرة الآخر ومساندة قضاياه. أن نسأل أنفسنا عن حال نساء لبنان وحقوقهنّ، حتى لا أقول حال الإنسان عموماً. تقاتل النساء في إيران ضدّ قانون اللباس الإجباري منذ عقود، والمرأة اللبنانيّة إلى جانبها ولكن في ميدان آخر. فهل حقاً ارتداء "حجاب السفارة" سيجلب المزيد من القمع والإعدام لسيّدات إيران؟ أم أن عدم ارتدائه سيسجّل موقفاً معنوياً إعلامياً مؤيّداً لنضال نساء إيرانيات. لا أدري لعل الجواب في "ترند" آخر.