رحل الزميل السابق في "النهار" والصحافي اللامع جورج ناصيف عن عمر لم يناهز 72 عامًا، بعد مخاض مع مرض أقعده في السنوات الأخيرة. رحيل بطيء، ثمّ مطلق، فإذًا متداعٍ في لوعته. خسرت الصحافة اللبنانية والعربية خصوصية لازمت جورج ناصيف، الذي أذاب تناقضات خياره العلماني مع الهوية الأرثوذكسية، حتى شكّل هذا المنظور حبلاً موضوعاتيًا ميّز مقالاته، سواء في السياسة أو الثقافة أو قضايا المجتمع. من "لسان الحال"، إلى "السفير"، ثمّ "النهار" ومساهمات في "البيان" الإماراتية، وعبرها نضال لأجل قناعاته في الوطن والروحانية المنفتحة؛ محطات عريضة لمسيرة انتهت، إلا أن السيرة باقية حين يستذكرها زملاء وأصدقاء، في كلمات عبر "النهار" لـ"الوديع متواضع القلب"، الذي غادر بصمتٍ دوّى عميقًا في وجدانهم.
خيبات وصبر
الوزير السابق طارق متري، سيفتقد جورج ناصيف الصديق منذ أيام الشباب والصحافي والكاتب الحقيقي، فـ"هو صحافي بمعنى البحث عن الخبر وتحليله والاحاطة بالحدث السياسي من كل جوانبه، وكاتب يمتلك لغة صافية. وبفضل ثقافته الادبية واسعة، جذب جورج القارئ ليس بمضمون الفكرة فحسب، بل جمالية كتابته الأدبية والشعرية."
ولدى جورج "رسوخ مزدوج. فهو مشبع بالثقافة العربية، وفي الوقت نفسه متوغل في الثقافة المسيحية المشرقية بما تتضمنه من أدب وتاريخ وفن وترتيل كنسي. وفي سنوات مرضه، حين كنت أزوره في بيت المسنين، كان يستمع للموسيقى الدينية الشرقية طيلة الوقت، وكنت أحيانًا أحضر له الموسيقى الصوفية. انشغاله بالخط الكنسي خصوصًا في سنوات شبابه، وجه حيزا من اهتمامه المعني للعمل مسؤولًا للاعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط."
ويضيف "التزامه السياسي ينتمي لجيل مَن شغلتهم قضية فلسطين فعاش خيبة هذا الجيل. وكان جورج لاطائفيًا وهذا لم يتعارض مع اهتمامه الكنسي، فشغله التغيير السياسي-الاجتماعي لكنه أصيب بخيبة أخرى، منها ما يتعلق بظروف لبنان المحيطة، ومنها ما يتعلق ببنية لبنان وتركيبته، ومنها ما يتعلق بأخطاء الجيل نفسه."
ويصف متري صديقه بـ"الصبور، خصوصًا في سنواته الأخيرة حيث لازم السرير لأن المرض جعله شبه غير قادر على الحركة. وحين أسأله كيف حالك يا جورج، كان يجيبني دائمًا: الحمد لله، نشكر الله."
صاحب الابتسامة والأفكار
مدير تحرير "النهار" غسان حجار، يعتبر أنّ "عبارة "الوديع ومتواضع القلب" أكثر ما يصف جورج ناصيف، لأنه بالفعل يستطيع التعامل مع كل شرائح الناس. كان وجهه يحتفظ بابتسامة دائمة؛ لا يتوقف عند بروتوكل أو اعتبار رسمي"، و "أعتقد أنه اكتسب هذه الصفات الانسانية العميقة بفضل عمقه الروحي المتين، وتركّز بعلاقته مع المطران جورج خضر والكنيسة الأرثوذكسية. وكانت نظرته للدين تقدمية، وغير مطابقة بالضرورة للتفسيرات الكنسية. وهكذا شكّل جورج ميزة قلمه، إذ عادة ما كان يدمج الفلسفة الدينية المنفتحة بجميع الملفات".
ولا يمكن إغفال مهنيته، "كانت الكتابة ملعب جورج ناصيف. قلمه سيال، لم يعجزه موضوع ما في السياسة، ولكن أيضًا في القضايا الإنسانية والاجتماعية والروحية، ولم يستعصِ عليه يومًا أن يبلور فكرة وينجز كتابة المقال بسرعة ملفتة"، فقد "كانت رأسه "محشورة" بالأفكار. هذه الغزارة، كانت تورطه أحيانًا في حالٍ من الضياع والفوضى لأنّه يريد إنجاز كلّ الأمور في وقت واحد، لكنها من نوع الفوضى المحببة".
كان حزينُا
مدير التحرير سابقا في "النهار" الأستاذ فرنسوا عقل يستذكر لقاءهما الأخير، "زرته في بداية مرضه، وكان لا يزال مقيمًا في دار رعاية تابع لمستشفى القديس جاورجيوس، ثرثرنا كثيرًا لكنّني لمست أنّه يشعر بحزن كبير، بسبب وضعه الصحي وعزلته عن عالم الصحافة، لدرجة أنّني فضلت ألا أطيل زيارتي لكيلا أفتح لديه مزيدًا من المواجع".
وأضاف "كان أحيانًا يكتب الافتتاحية، لكنني لم أعرف جورج ناصيف عن قرب، فهو لم يكتب في "النهار" مع الكوكبة التي عملت في مطلع الستينيات في الحمرا وشهدت على ما نسميه "أيّام العز". دخل "النهار" مع الرعيل الذي ضمّه الراحل غسان تويني إلى الجريدة في ثمانينيات القرن الماضي وكانوا كتّابًا في صحف أخرى، أذكر منهم راجح الخوري وجهاد الزين والياس الخوري الذي تولى حينذاك إدارة "الملحق"."
المؤمن العلماني
نسيبه وصديقه الصحافي والمؤلف نقولا ناصيف، يروي أنّ "جورج ناصيف كان يتابع دراسته الجامعية في الأدب العربي وكان يدرس اللغة العربية في عدد من المدارس، وكان أستاذًا لي في عام 1971. وبعد حيازته الليسانس، دخل المجال الصحفيّ من خلال جريدة "لسان الحال"، وانتقل للعمل في "السفير"، منذ تأسيسها في مطلع السبعينيات، فأدار الصفحة الثقافية وصفحة المساهمات في قضايا الساعة، واستمرّ فيها لغاية حرب السنتين، ومنذ ذلك حين عكف على المقالة السياسية".
وخلال حرب السنتين، "دفعته خلفيته الحزبية في الحزب القومي السوري الاجتماعي إلى إنشاء "تجمع المسيحيين الديمقراطيين"، فميّزوا أنفسهم بما يمثلون كمسيحيي المنطقة الغربية عبر خياراتهم المنافية للأحزاب الانعزالية، فنشط في المقلب الآخر الذي انضوى تحت "الحركة الوطنيّة"".
ويضيف "منذ منتصف الثمانينيات لغاية عام 2008، انتقل جورج للعمل في "النهار" مسؤولًا عن صفحة "قضايا"، ثم رئيس قسم صفحة "المحليات"، وعمل لمدّة أستاذًا محاضرًا في جامعة "البلمند"".
في أفكاره تناقض ظاهري، إلا أنها تشابك في عمق إنسان مؤمن وغير طائفي، فـ" بقدر ما كان جورج ناصيف عقائديًا في تجربته ضمن حزب علماني، كانت تشغله الاهتمامات الروحيّة؛ إذ كان مقربًا من المطران جورج خضر، وشارك في تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية في المصيطبة، وانخرط في مجلس كنائس الشرق الأوسط ممّا مهّد له معرفة البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع هزيم."
ويشير إلى "تجربة حزينة لجورج مع المرض، الذي أعاق انتاجيته، فقد أصيب بجلطة دماغية منذ نحو عشر سنوات، وتدهورت صحته إثر جلطات عديدة إلى أن فقد القدرة على الحركة، فسلخه مرضه عن بيئته وأصدقائه وكتبه وهو في ريعان العطاء."