فتيات سُلِبن الطفولة، طفلاتٌ أمّهاتٌ لأطفال، وكم تعرّضن لشتّى أنواع التعنيف! حياتهنّ عبارة عن عطب في الجسد والنفس، ناهيك بمأساة الأولاد. ليست آفة تزويج القاصرات طارئة ولا مؤقتة، وأرقامها الأخيرة في لبنان تجازوت نسبة الـ13 في المئة، غير أنّها لا تحمل مفاجأة بسبب ارتباطها المباشر بتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
يُمكن القول إنّ قصص "تزويج القاصرات" مألوفة، لكن جعلها متقبّلة لدى الجمهور أمرٌ غير مسموح، خصوصاً في خضمّ الأزمة اللبنانيّة حيث باتت كلمات من عيار: "دولار"، "مازوت"، "كهرباء"، "حليب"، "دواء"، "غذاء"، مفاتيح المعجم اليوميّ لمعاناة اللبنانيين العامّة، فخُنقت قضيّة تزويج القاصرات شأن كثيرٍ من قضايا المرأة باعتبارها ليست أولوية، بالتزامن مع ردّ منظّرين على صرخات المعاناة بالقول "ليس الآن".
بلى، الآن، في حملة الـ16 يوماً للعنف ضدّ النساء، وفي زمن الأزمة اللبنانية أكثر من أيّ زمن مضى! سيبقى لمعاناة القاصرة المتزوّجة صوتٌ حتّى تنالَ حقوقَها الإنسانيّة ولو بـ"شقّ الأنفس"، لأنّ لا طريق للحقّ معبّد بالورود. أمّا الظروف المعيشية القاهرة التي تدعم "حجّة" المستخفّين، فلا تدعم فقط جريمة تزويج القاصر، بل تصعّب على الأنثى التحرّر أيضاً من هذه المأساة، وتُعيق انفصالها عن زوجها، إن لم نقل إنّ الانفصال يشكّل للأغلبيّة منهنّ حلماً صعب المنال.
"نزفتُ شهراً بعد زواجي"
تروي هالة* (20 عاماً) لـ"النهار" تفاصيل مأساتها التي بدأت منذ زواجها في الـ12 من عمرها:
"كان والدي متوفّياً. جاء أخوالي وقالوا لي "إجا ابن الحلال اللي بدو يسترك ويضبّك بالبيت". والدتي لم تعترض. تزوّجت بعقد زواج غير مثبت، وأنا لا أعرف شيئاً عن الزواج. في ليلة الزفاف، سمعت نصيحتهم: "سلّمي نفسك، ولا تعترضي لأنك إن تمنّعت أو خفتِ، سيظنّ أنّك فتاة سيّئة الأخلاق". نزفت شهراً منذ ليلة زواجي. أذكر من تلك الليلة صراخي وبكائي والدم. رافقتني عوارض النزيف لفترات متقطّعة، حتى أصبت بفقر دم مزمن. حملت بابنتي الأولى بعد 8 أشهر، وأنا لا أعرف كيف أعتني بمولود جديد. ولأنني كنت أقصّر في أعمال المنزل والطبخ، كان زوجي يُبرحني ضرباً، وهو يصرخ بي "لماذا تزوجتكِ إن كنت لا تتقنين شيئاً من واجبات المنزل؟".
لم أعش طفولتي. ولا أتمنى لابنتي مستقبلاً كالذي أعيش. زوجي اليوم عاطل من العمل. أتسوّل رحمة المارّة في شارع الحمرا، فيعطونني نقوداً. أريد أن يصل صوتي إلى كلّ من يفكّر في تزويج ابنته في سنّ صغيرة، وأريد لكلّ شخص يعرفُ أن بنتاً قاصراً ستتزوج ألا يكون شاهد زور ويفعل كلّ ما بوسعه ليمنع زواجها".
"يضربني ويقفل عليَّ البيت"
أمّا فرح* (30 عاماً) من عكار، فهذه قصّتها:
"تزوّجت في سن الـ16، ففي اعتقاد أهلي أنّه سيؤمّن لي حياة كريمة حين أسافر معه إلى حيث يعمل في دولة عربية. هناك، كان يقفل عليَّ باب البيت بالمفتاح، ويمنعني من التواصل مع الناس، وينهال عليَّ بالضرب لأقلّ سبب، وأخفى عنّي حقيقة أنّه عاقر.
أنا اليوم مطلّقة، وحصلت على طلاقي لدى عودتي إلى لبنان بعد سنتين ونصف من زواجي. أجريت دعوى خلع (طلب الطلاق من قبل الزوجة) لأنفصل عنه، فتنازلت عن مستحقاتي كافّة، وطالبني بالذهب الذي أهداني إيّاه مقابل طلاقي من خلال وكيل في لبنان تابع الإجراءات في المحكمة الشرعية".
أرقام مخيفة
تستخلص منظّمة اليونيسف من هذا الواقع الأليم أنه في الوقت الذي ينزلق لبنان أكثر فأكثر في أزماته المتعدّدة العميقة، يلجأ بعضٌ من الأسر الأكثر ضعفاً إلى آليّات عدّة للتأقلم. فالديون أصبحت ترهق كاهل الأهل، والبعض يشجّعون بناتهم على الزواج في عمر مبكر جداً.
وفي دراسة صدرت في تشرين الثاني 2020 بعنوان "الزواج المبكر- أسبابه وآثاره ونتائجه السلبية على القاصرات اللبنانيات واللاجئات في لبنان"، أنجزتها جمعية "مساواة وردة بطرس للعمل النسائي"، بالتعاون مع لجنة حقوق المرأة اللبنانية، وشملت 300 حالة، يظهر أنّ الزواج المبكر في لبنان تجاوز نسبة الـ13 في المئة لدى القاصرات في مقابل 3 في المئة لدى الصبيان. وازداد تحديداً في المرحلة الحالية ضمن المناطق الأكثر فقراً في أقضية الهرمل والمنية الضنّية وعكّار.
وتشير الدراسة إلى أن الزيجات تركّزت في المخيمات العشوائية للنازحين السوريين وأماكن تجمّعهم، حيث تقترب نسبة القاصرات المتزوّجات من 25 في المئة.
وتبيَّن خلال المقابلات واللقاءات مع العيّنة المبحوثة أنّ 88,7 في المئة من هؤلاء الإناث ضدّ الزواج المبكر.
ونجد أن الآفة تتفاقم حين نُقارن مع دراسة اليونيسف في 2016، التي خلصت إلى أنّه تمّ تزويج 6 في المئة من النساء اللبنانيّات قبل بلوغهن سنّ الـ18 (تتراوح أعمارهن آنذاك بين 20 و24 عاماً). ووجدت دراسة أخرى في 2017 أن 24 في المئة من اللاجئات السوريّات بين 15 و17 عاماً متزوجات.
رفع سنّ الزواج خطوة كافية؟
اتّخذ المجلس الإسلامي الشرعي في نيسان 2021 خطوة إيجابية بإقراره رفع سنّ الزوج لـ15 عاماً لدى الطائفة السنيّة. وينطوي التعديل على توحيد سنّ الزواج بـ18 عاماً للذكر والأنثى، ورفع السنّ الأدنى للزواج وتحديده بـ15 عاماً بشروط.
وفي الشروط الملزمة للأعمار ما بين 15 عاماً و18 عاماً، يتطلّب عقد الزواج إذناً خاصّاً من القاضي، بشرط عرض الأنثى على طبيبة نسائية وأخصائيّـ(ة) نفسيّـ(ة)، للتأكد من ملاءمة بنيتها للزواج واستعدادها النفسي لذلك، لكن من دون تحديد معايير "الأهلية النفسية والجسدية".
من جهتها، لا تنفي المحامية المختصّة في قضايا المرأة عتيبة المرعبي التقدّم النوعيّ، الذي خاضه التشريع الأخير لحماية القاصرات من التزويج المبكر، وتلمس من خلال عملها الميدانيّ ومتابعتها القضايا "تراجعاً منذ شهور في تزويج القاصرات اللبنانيات، بسبب التكاليف الماليّة للأطباء النسائيّين والأخصائيين النفسيّين في ظلّ الأزمة".
في المقابل، تجد الخبيرة القانونية أنّ القانون الجديد لا يعيق التزويج المبكر لدى فئة مهمّة، لأن "النسبة الأكبر من عقود الزواج هذه، خصوصاً في الأرياف، وفي مجتمعات النازحين تُعقد بكتاب غير مثبت في المحكمة، وَفقاً للأصول القانونية".
عملياً، "إن أرادت الأنثى الطلاق، فهي تصطدم بصعوبات عضوية وأخرى فاقمتها الأزمة الراهنة:
- المدة الزمنية الطويلة التي تتّخذها قضايا الطلاق، وتعقيدات ومصاريف إضافية تقع على كاهل الزوجة في دعوى إثبات الزواج أمام المحكمة الشرعيّة السنيّة، وإثبات النّسب في حال وجود أولاد لحصولهم، بأفضل الحالات، على النفقة.
- غياب المسكن البديل للزوجة، إذ إن أغلبيّة الأهالي لا يدعمون الزوجة في طلبها الطلاق، ويشترطون عليها التخلّي عن أولادها في حال عودتها إلى منزل أهلها.
- البِدع في التطبيق القانونيّ التي تقضي اليوم بأن يكون المخفر هو مكان الادّعاء على الزوج المعنّف خلال 24 ساعة من وقوع التعنيف، والنيابة العامة بعد هذه المدّة، بالرغم من غياب النّص القانوني.
- ارتفاع قيمة أتعاب المحامين والإجراءات القانونية في المحكمة. على سبيل المثال: كان المُباشِر يتقاضى مبلغ 10 آلاف ليرة، واليوم لا يرضى بمبلغ يقلّ عن 100 ألف ليرة، والمثل يحذوه ميسّرو المعاملات والموظفون كافّة.
- ارتفاع تكلفة التنقلات، ما يرتّب أعباء إضافية على النساء اللواتي يردن الطلاق ولا يملكن أجرة النقل. ونجد هذه المشكلة خصوصاً في حال الزوجة المعنّفة التي تطلب الطلاق في المناطق النائية. ففي عكار مثلاً، لا يوجد نيابة عامّة، ويستعصي على المعنّفة النزول إلى طرابلس للادّعاء على الزوج".
المنظّمات المدنيّة ودورها التوعويّ
ثغرات متعدّدة لا تزال إذاً تعتري حماية القاصرات قانوناً من التزويج المبكر، لكن في المشهد شطراً ثانياً من المسؤولية تتشاركه المنظمات غير الحكومية والجمعيّات النسوية والاختصاصيّات الاجتماعيّات، وتنجح فيه على أكثر من صعيد، سواء في طرح مقترحات قوانين ومتابعتها مع الجهات المختصّة، أو في رفع صوت المعنّفات والناجيات من النساء والقاصرات، وإمدادهنّ بالدّعم والإرشاد والحماية.
تضع المدرّبة والناشطة النسويّة إيمان الأحمد مسألة الوعي لدى القاصرات والنساء عموماً في صلب واجبات المنظّمات المدنية، حيث يشكّل الوعي الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل "حين نلتقي هؤلاء السيدات، ونمددهن بمعلومات خلال ورش حول العنف القائم على النوع الاجتماعي والزواج المبكر وغيرها من القضايا ذات الصلة، ألمس تنامياً في الوعي لديهنّ. الأغلبيّة من المتدرّبات ينظرن إلى مستقبلهن من زاوية مختلفة، فيبدأن برفض الممارسات الذكوريّة التي يتعرّضن لها، ويحاولن أن يتعلّمن ويُحقّقن استقلاليّتهن، بعد أن كان عالمهن مختزل بالزوج".
وتشدّد على أهميّة دخول الجمعيّات المناطق النائية والأطراف والمخيمات، لأنّ "هؤلاء الضحايا والناجيات لن يقصدن المراكز من تلقاء أنفسهنّ".
وترى أن التوعية حول قضية التزويج المبكر "يجب أن نخوضها على أكثر من مستوى: في المدارس لتوعية الأطفال والمعلّمات، وحملات تستهدف الأهل، ونقاشات مع رجال الدين. وقد أثبتت التجربة التأثير المهمّ الذي تحرّكه الفيديوات التوعوية والمتحرّكة animation على التطبيقات التي تحظى بشعبيّة لدى هذه الفئة العمرية، وبالأخصّ تيك توك".
*الإسم المشار إليه مستعار لخصوصية الحالة.