محمد بزي
لا شك في أنَّ تكلفة المعيشة في لبنان أصبحت باهظة جداً، وبالكاد يستطيع المواطن اللبناني تأمين احتياجاته الأساسية، بعد الأزمات التي حلّت وعصفت بالقطاعات كافة. وفي ظل حالة انعدام الأمل والرجاء، وارتفاع حالات الوفيات بشكل ملحوظ، إن نتيجة الوباء أو فقدان الأدوية لإتمام العلاجات، أو نتيجة كثرة المشكلات والهموم، فإنّ تكلفة الدفن أيضاً باتت تخضع لحسابات جدية ودقيقة، خاصة أنّ "فلتات" الدولار أصابت المؤسسات التي تُعنى بحالات الموت أيضاً.
طال ارتفاع الدولار حتى طقوس ولوازم الدفن التي تختلف من طائفة إلى أخرى في لبنان، وإن كان القاسم المشترك بينها جمعيها أنها أصبحت بالفريش دولار. من النعوش والجوارير مروراً بسيارات النقل وأوراق النعي وصولاً إلى العمال والزهور وموائد العزاء وغيرها.
وفي الآتي، جولة على الأسعار التي تحدّدها مؤسسات وشركات تهتم بدفن الموتى؛ وذلك لإعطاء لمحة عن تكلفة مراسم دفن عادية.
يقول رضا يزبك صاحب مؤسسة "يزبك ونصار" لدفن الموتى إنَّ هناك الكثير من العائلات أصبحت اليوم تكتفي بتقبل التعازي في الكنيسة لدى الطائفة المسيحية نظراً للارتفاع الجنوني في تكاليف الدفن.
ويشير يزبك في حديث لـ"النهار" إلى أنَّ "سعر النعش يبلغ اليوم نحو 300 دولار. أما أجرة سيارة نقل الموتى فتختلف بحسب المناطق".
ويبقى الحدّ الأدنى أكثر من 100 دولار في حال خرج مسار الجنازة من إطار العاصمة بيروت، كما أن هناك تكلفة الخدمة التي تبلغ نحو 35 دولاراً.
وفي ما يتعلّق بالمدافن الخاصّة بالطائفة المسيحية، هناك رسم سنويّ لها يبدأ من نحو الـ150 دولاراً سنوياً.
أما بعد الدفن فتأتي أجرة صالون الكنيسة التي لا تقلّ عن 50 دولاراً في اليوم، ليرتفع السعر في الكنائس الكبيرة إلى أكثر من ذلك، علماً بأن استئجار قاعات الكنيسة يكون لثلاثة أيّام، أي ليوم الدفن ويومين آخريين بعده. لكن هذه العادات بدأت تخفّ تدريجاً، لتقتصر التعازي لدى الكثير من العوائل على يوم أو يومين كحدّ أقصى.
أما الكهنة الذين يصلّون في الكنيسة ويهتمّون بتجهيز الجثة فيتقاضون أيضاً أتعابهم، وتُحدّد الأسعار بحسب قدرة كلّ شخص.
وإذا أردنا التحدّث عن كماليات العزاء، فتتراوح تكلفة الغداء لأصحاب العزاء حسب القدرة الشرائية، فيما أسعار أكاليل الزهور تتراوح ما بين 40 إلى 50 دولاراً.
الطوائف الإسلامية لديها طقوس أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، إلى جانب بعض الأمور الكمالية.
يقوم المسلمون، في الليالي الثلاث الأولى - ليالي الوحشة - بجلب قارئ ليتلو آيات قرآنيّة، ليؤنس الميت في قبره، الأمر الذي يخفّف من عذاب القبر، بحسب الاعتقاد الإسلامي. كذلك يقوم أهل المتوفّى بتوزيع نسخ من القرآن الكريم، وإقامة مجالس وموائد طعام لراحة نفس الميت. وهي مراسم باتت متطلّباتها بالدولار، أو على سعر الصرف في السوق السوداء.
في ما يخص المراسم الأساسية لدفن الميت، فهناك غسل الميت وتكفينه. وهي تختلف من منطقة لأخرى، حيث يتبرّع بعض الأشخاص بغسل الموتى من دون أيّ مقابل، معتبرين أن عملهم "صدقة"، فيما البعض الآخر يتّخذ من غسل الأموات مهنة له. وأشار أحد الأشخاص الذي يهتمّ بشؤون الموتى إلى أنّ هؤلاء يتقاضون بالحد الأدنى ما يقارب الـ35 دولاراً. أمّا الكفن (من الكتّان) فسعره يتراوح ما بين الـ80 إلى الـ90 دولاراً.
القبر لدى المسلمين أيضاً يدخل من ضمن التكاليف، إذ يختلف سعر القبر بحسب المقبرة والمناطق. وفي بعض المناطق يتمّ تخصيص بعض الأراضي التي تبرّع بها محسنون لتكون "أرض وقف" لدفن الموتى، وفيها لا يتقاضى القيّم عليها مالاً، إذ الدفن فيها عملٌ يُتقرّب به إلى الله. أما أحجار اللحد وبناؤه فتبلغ تكاليفها ما يقارب الـ250 دولاراً.
لدى الطائفة الدرزية، يقوم أحد المشايخ بأداء صلاة الجنازة في دار الطائفة الدرزية، أو في القاعات المخصّصة لذلك في المناطق. وينفق أهل المتوفى "حسنات" على الضيع المجاورة، وتُحدّد قيمتها بحسب قدرة كلّ شخص.
أمّا ما يخصّ مراسم الدفن، فهناك ثمن النعش الذي يختلف سعره بحسب نوعيته، ابتداءً من 300 دولار صعوداً بحسب النوعية، فضلاً عن تكلفة غسل الميت وإجراءات مشابهة لذلك.
لاجئون يبحثون عن قبور لذويهم
في لبنان، ثمّة سؤال عن مكان دفن الغريب، وعن الأسس أو العادات المتبعة في هذا الإطار؛ ومن هؤلاء اللاجئون السوريون الذين يخضعون بدورهم للتكاليف ذاتها، خصوصاً أن بعضهم يواجه مسألة إيجاد مدفن، بسبب عدم استقبال الكثير من المدافن لموتى اللاجئين.
في لبنان، هناك مجموعة من المقابر التي تستقبل جثامين اللاجئين السوريين، منها مقبرة الغرباء (طرابلس)، وسيروب (صيدا)، ومجدل عنجر، والرحمة، والجراحيّة، وبرّ إلياس، والعمرية، والفاعور (البقاع)، إضافةً إلى بعض القرى التي تسمح بدفن الموتى في مقابرها بعد وساطات أو دفع مبالغ مالية، فيما تفرض بعض المقابر مبالغ كبيرة لشراء قبر، وهو ما لا يمكن لأغلب المقيمين في لبنان تحمّل أعبائه.
وفي مناطق أخرى، وهب بعض الأشخاص أراضيهم لتقام عليها مدافن للسوريين.
تجد بعض العائلات السورية أنَّ الحلّ الأنسب في حال توفيَّ شخص من العائلة هو ترحيل الجثة إلى بلدهم الأم. ولكن طبعاً في بلد تعصف فيه الفوضى، لا يبدو الأمر بهذه السهولة، فلكي توافق وزارة الخارجية والمغتربين السورية على طلب قبول نقل جثث المتوفين السوريين خارج البلاد مجاناً، تفرض مساراً طويلاً من الإجراءات، يبدأ بتسجيل الواقعة لدى البعثة، ثم الحصول على إذن بنقل الجثمان، مروراً بتزويد مرافق الجثة بنسخة أصليّة من شهادة الوفاة المصدّقة أصولاً، وتقرير الطب الشرعيّ، وصولاً إلى خلو الجثمان من الأمراض السارية والمعدية، وإغلاق التابوت بإحكام بالشمع الأحمر وغيرها، ما يجعل العمليّة معقّدة لا بل مستحيلة، خاصةً أنَّ هناك عدداً كبيراً من اللاجئين يدخلون البلاد خلسة من دون أيّ أوراق ثبوتية.
جثة ضائعة
يروي الشاب رمضان الذي يبلغ من العمر27 عاماً تفاصيل وفاة والده حديثاً عام 2018، وفي قلبه حرقة وغصّة.
لم يكن لوالد رمضان وصيّة إلا أن يتمّ دفنه في سوريا.
لم يحاول رمضان حتى اتباع الخطوات الرسميّة لترحيل جثمان والده لمعرفته سلفاً بأنَّ الأمر معقد، وأن هناك احتمالا كبيراً ألا تتمّ الموافقة على طلب الترحيل، فتوجّه كسباً للوقت إلى خيار إدخال الجثة عبر المعابر غير الشرعية.
يقول رمضان إنه تواصل مع أحد المهرّبين الذي طلب منه مبلغ 3000 دولار أميركي، على أن يتكفّل بتفاصيل العملية كافة، ابتداءً بنقل الجثة، وصولاً إلى الدّفن في الداخل السوري. وبعد تأمين المبلغ، سلّم رمضان الجثة للمهرّب لينطلق بها إلى سوريا.
في اليوم الثاني، حاول رمضان التواصل مع المهرّب مراراً وتكراراً إلا أنّه لم يستطع الوصول إليه، فاتّصل بذويه في الداخل السوري، فأخبروه بأنهم لم يتلقّوا أيّ اتّصال من أيّ شخص ولم يتسلّموا الجثة.
لا يزال رمضان يعيش في الحسرة والندم، متأمّلاً في أن يكون قد بقي لدى المهرب ذرّة ضمير فلم يقم بترك التابوت في العراء. وليومنا هذا، لا تعلم عائلة رمضان ما الذي حلَّ بجثمان والدهم!
دفن جثة ولده في البستان الذي يعمل فيه...
في مدينة صور جنوباً، اضطر أحد اللاجئين الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب عائلية، دفن ابنه، الذي توفي بحادث مفاجئ، في البستان الذي يعمل فيه ويقيم؛ وذلك بعدما ضاق ذرعاً بتكاليف الدفن.
ويقول الوالد إنه قد طلب الإذن من صاحب البستان الذي لم يمانع في ذلك، وهو ما حصل.