النهار

محمية غابة أرز تنورين بين مطرقة التغير المناخي وسندان العدالة الاجتماعية
A+   A-
على بعد 90 كيلومتراً من العاصمة بيروت، تمتدّ على مساحة 620 هكتاراً واحدة من أكبر وأكثف غابات لبنان والمنطقة، يزيد عدد أشجارها على مليون و500 ألف شجرة أرز لبناني (Cedrus Libani) تنمو على علو يتراوح بين 1400متر و1850مترا.

تُعتبر محميّة أرز تنورين التي أُنشئت بموجب القانون رقم 9 تاريخ 25 شباط 1999، "مختبراً لآلاف العمليات البيولوجية والبيئية، إذ تشكّل نظاماً بيئياً قائماً بحدّ ذاته"، وفق مدير المحمية المهندس شليطا طانيوس. ويمكن اعتبارها كذلك عيّنة مصغّرة من النظام البيئي الكلّي، فهي تشكّل موئلاً لأكثر من 16 نوعاً من الثدييات وأكثر من 1000 نوع من الحشرات النّادرة، وقد صنّفها المجلس العالمي للطيور في العام 2006 "منطقة مهمّة للطير"، إذ أحصي فيها 80 نوعاً من الطيور المهاجرة والمقيمة، أبرزها الحجل المهدّد بالانقراض.
 

في شهر تموز من العام 1998، طغى اللون البنّي على أشجار الأرز، وتكرّر في العام التالي، وبدت الغابة كأنّ حريقاً شبّ فيها، قبل أن يتبيّن أنّ سبب يباس أشجار الأرز، حشرة، شخّصها مركز الأبحاث الزراعية الفرنسية على أنّها نوع جديد من الحشرات، سُمّيت حشرة الأرز المنشارية أو سيفالسيا تنوريننسس (Chevin Cephalcia Tannourinensis) نسبة إلى غابة أرز تنورين حيث رُصدت للمرة الأولى.

بات من المؤكَّد أنّ ظاهرة التغيّر المناخيّ قد أحكمت سيطرتها على الأرض، ولم يعد لبنان بمنأى عنها، إذ بات يشهد تغيّرات مناخية ملموسة في النظامين المطريّ والحراريّ، فضلاً عن تطرّف مناخيّ واضح، وفق تعبير الاختصاصي في علم المناخ الدكتور جورج كرم في حديث لـ"النهار".


تأثير مباشر لتغيّر المناخ
تقع بلدة تنورين ضمن مناخ حيوي رطب، ويختلف المناخ فيها بشكل ملحوظ مع تغيّر الارتفاع والطوبوغرافيا، إذ تنخفض درجة الحرارة وتزداد نسبة المتساقطات مع الارتفاع عن سطح البحر. ويتّسم مناخ تنورين بمتوسط درجة حرارة سنوية تتراوح من 8,9 درجات مئوية إلى 11,1 درجة مئوية. ويتراوح هطول الأمطار بين 1060 ملم و1650 ملم، ويبلغ ذروته في أشهر الشتاء، قبل بداية الموسم الحارّ والجاف صيفاً.
 

تُظهر إشارات مناخية عدّة تغيراً تدريجياً منذ نحو عقدين، وقد أظهرت بيانات الطقس في تنورين اتجاهاً لزيادة متوسط درجات الحرارة للأعوام من 2001 إلى 2010. وفي العام 2013، توقّع عرض لـ"المؤسسة الألمانية للشركات الدولية" (GIZ) زيادة درجة إلى درجتين مئويتين في متوسط درجة الحرارة بحلول عام 2040.

في الإطار، ذكر كرم لـ"النهار" أنّ "اتجاهات الأمطار السنويّة في لبنان لم تسجّل أيّ اتّجاه يُذكر في خلال الفترة الزمنية الممتدة من 1943 حتى 2014، إلّا أنّ الفصول الممطرة أصبحت أكثر تطرّفاً"، مؤكّداً أنّ "الأمطار أصبحت تهطل على شكل زخّات عنيفة، سيليّة، وفي خلال وقت قصير مع ازدياد الفروق في توزّعها على أيّام الفصل الممطر".

هذا التغيّر في النظام المطريّ، إضافة إلى ازدياد موجات الجفاف خلال فصل الشتاء وتراجع كمية الغطاء الثلجي على الجبال (وهو ما تؤكّده دراسة للدكتور شربل أبو شقرا في قسم الجغرافيا - جامعة القديس يوسف)، كلّها عوامل مؤثّرة في النظام الإيكولوجيّ الخاصّ بغابة الأرز لناحية تراجع كمّيّات المياه، ونسبة الرطوبة في التربة. ويرى كرم أنّ "تراجع درجة ترطيب التربة، يؤثّر سلباً في نمو البذور والأشجار الجديدة، وتالياً يحدّ من عملية تجدّد الغابة".
 

علاوة على ذلك، من المتوقع أن ينخفض هطول الأمطار بنسبة 10 بالمئة إلى 20 بالمئة بحلول عام 2040، ومن 25 بالمئة إلى 45 بالمئة بحلول عام 2090، فتطول فترة الجفاف، وفق عرض "GIZ". وقد توقّع البلاغ الوطني الثاني لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (2011) تحولاً نحو مناخ حيوي شبه جاف يؤثر بشدّة على النظم البيئية لغابة أرز تنورين.

في السياق، تُعدّ غابة أرز تنورين من بين المناطق الأكثر تأثراً بتغيّر المناخ لسببين رئيسيين:

- موقعها في شمال لبنان، الأكثر عرضة لتغير المناخ بسبب التحول المتوقع في المنطقة المناخية الحيوية.

- انخفاض القدرة الطبيعية على التكيف للغابات الصنوبرية في المنطقة العليا (Cedrus libani وAbies cilica) والتكوينات الحرجية الجبلية العالية (Juniperus excelsa) حيث لا توجد إمكانية لهجرة الأشجار إلى ارتفاعات أعلى.

وذكر باحثون في دراسة أجرتها جامعة رايس في ولاية تكساس الأميركية، ونشرتها دورية "ساينس" العلمية مطلع العام 2022، بشكل "متحفّظ"، أنّ "انحسار الثدييات والطيور قد قلّل بالفعل من قدرة النباتات على تتبّع تغير المناخ بنسبة 60 بالمئة على مستوى العالم". فثمّة دور فعّال للحيوانات التي تسكن غابة أرز تنورين (أبرزها الضباع والسناجب والثعالب) في أكل النباتات والثمار ونقل البذور إلى مواطن عدّة ضمن نطاق المحمية.
 

شهدت الغابة، مع استفحال حشرة السيفالسيا، انحساراً في نسبة أشجار الأرز. أُضيف إلى هذه الكارثة البيئية خطر تلاشي الثروة الحيوانية والغطاء النباتي بمرور الوقت مع انحسار الأمطار وارتفاع درجات الحرارة التي تؤدّي إلى تسريع وتيرة ذوبان الثلوج في المحمية، ما ينعكس بطريقة دراماتيكية على التنوع البيولوجي أولاً، وبالتالي، قدرة النظم البيئية على تخزين الكربون وتوفير الغذاء والمياه النظيفة.

من جهة أخرى، أدّى انخفاض نسبة تساقط الثلوج ورطوبة الأرض جرّاء التغيّر المناخي إلى "اضطراب في الدورة الحياتية لحشرة السيفالسيا، ما جعلها تقتات على أوراق الأرز سنوياً مسبّبة يباس الأغصان"، وفق شرح أمين سر لجنة المحمية والاختصاصي بحشرات الغابات الدكتور نبيل نمر لـ"النهار"، مضيفاً أنّ "التغيّر المناخي أثّر كذلك على التكاثر الطبيعي للأرز في المحمية، مع زيادة نسبة حرارة الأرض وانخفاض نسبة المتساقطات".

يُشير نمر إلى غياب المعدات والتقنيات الفعالة لدى السلطات الرسمية، لافتاً إلى "حصر عملها بالتنظير وإصدار المراسيم".


بين التغير المناخي والعدالة الاجتماعية
لا إحصائيات رسمية في تنورين حول نسبة الفقر، غير أنّ ثمّة عائلات عدّة أفرادها من ذوي الدخل المحدود، وتشكّل المحمية للبعض مدخولاً جيداً (حرّاس، أدلّاء سياحيون، قرويات يعرضن منتجات طبيعية...). ومع ذلك، تبقى المحمية مورد رزق لا يستفيد منه أحد.

أرخت ظاهرة استفحال السيفالسيا بظلالها على الغابة، وأحكمت سيطرتها قبل تولّي طوافتان فرنسيتان، ومن ثمّ الجيش اللبناني، خلال العامين 1999 و2000، مهمّة رش مركّب " دايفلو بنزيورون" غير السام للإنسان والحيوان، وتالياً بدء مرحلة التعافي الجزئي.

دخلت هذه التجربة المخيفة الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة الذين يعتدّون بغابتهم التي وضعت القرية على خريطة السياحة البيئية الإقليمية. وحال التغير المناخي دون الإفادة من المنتجات غير الخشبية التي توفرها الغابة، لئلا يؤثر الاستثمار، وإن جزئياً، على النظام الإيكولوجي فيها والتنوع البيولوجي.

يُجمع طانيوس ونمر على ضرورة حماية التنوع الأحيائي للغابة، ويؤكّدان سقوط فكرة الاستثمار، وإن في إطار مستدام، لمنتجات الغابة غير الخشبية (فطر، أعشاب برّية، فاكهة...)، الأمر الذي ينصّ عليه كذلك قانون المحميات في لبنان الذي يمنع أي تدخّل بشري من شأنه أن يضرّ البقعة.

تعتمد استمرارية خدمات النظم الإيكولوجية للغابة على صحة نظمها الإيكولوجية في مواجهة الضغوط الحيوية وغير الحيوية. يُعدّ التغير المناخي أحد عوامل الضغط الرئيسية على النظم البيئية للغابة في محمية أرز تنورين. فتغير المناخ يؤثر سلباً على السلع والخدمات الحرجية، ويقلّل تالياً من الفوائد التي توفّرها للقطاعات الأخرى.
 

ولكن استثمار الغابة "يقتصر على السياحة البيئية (عبر سلوك دروب محدّدة جيداً)، مراقبة النجوم، والمشي على الثلج"، وفق طانيوس الذي يشير إلى هشاشة المحمية في وجه تغيّر المناخ الذي انعكس سلباً، بطريقة جدّية، على الفئات الأكثر هشاشة في المنطقة، أبرزهم أصحاب الدخل المحدود الذين يعانون في ظلّ غياب الدعم الرسمي (الانهيار المالي وغياب خطط الدعم وعدم تفعيل برامج الضمان الاجتماعي)، ومع غياب استراتيجية استثمار غابة تمتدّ على مساحة 620 هكتاراً، وإدارة الشقّ المالي، وليد اسثمار الثروات، وتوزيعه بشكل عادل عليهم.

ومن شأن استفحال آثار التغير المناخي على الغابة، في ظلّ غياب خطط دعم البلديات والسكان من قبل الدولة، إلى:

- إغلاق المحمية موقتاً للدراسة والمكافحة، وبالتالي خسارة المنطقة عامل جذب للسياح.

- سريان نوع من "الدعاية السيئة" التي تؤثر حتماً في تراجع السياحة.

- تراجع انتعاش محيط الغابة الذي يضمّ الفنادق، المتاجر، بيوت الضيافة،المقاهي وأماكن العبادة.
 
____________________
تمّ إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI
 

اقرأ في النهار Premium