النهار

"صرخة ضدّ قتلنا"... طرق الموت تحصد الأرواح في لبنان بسبب تهالك البنى التحتيّة
ايسامار لطيف
المصدر: "النهار"
"صرخة ضدّ قتلنا"... طرق الموت تحصد الأرواح في لبنان بسبب تهالك البنى التحتيّة
حفرة على طريق عام جونية - الكسليك ("النهار").
A+   A-
لم تعد تخفى على أحد اليوم تداعيات الانهيار المالي والمعيشي في لبنان، حيث باتت تهدّد الأرواح.

في هذا السياق، أطلقنا عبر "النهار" قبل أشهر صرخة، يبدو أنّ المعنيين صمّوا آذانهم عنها، لأنّها قد تخدش ضمائرهم، إذ إنّها قد تفضح "المستور" وتكشف خفايا بعض الكارتيلات التي تتاجر بأرواح الناس، عبر ما يسمّى صيانة الطرق، التي لها حصّة وازنة من الإهمال والفساد، فيما أرقام الحوادث وعدّاد القتلى والجرحى اليوميّ خير مثال على ذلك.

كالعادة، يقع الناس ضحيّة طرق الموت من الجنوب حتّى الشمال مروراً بالعاصمة، التي لا تزال تلمّ جراحها بعد انفجار الرابع من آب، حيث لا تزال الطرق مشقّقة، والحفريات على حالها من الانتظار... "الفرج"!
 
والتركيز على شِقّ صيانة الطرق في هذا التقرير لا ينفي مسؤوليّة السّائقين عن عدد من الحوادث نتيجة السّرعة والتهوّر.

خنادق الظلام... "أين الدولة"؟
 
 "ما عم نطلب يشترولنا سيارة موديل السنة، بس مش مضطرّين نكسّر سيّاراتنا من ورا الطرقات والحفريات يللي مش عم يعرفوا يكفّوها". بهذه الكلمات عبّر الشاب جهاد حلاوي في حديث لـ"النهار" عن تجربته الخاصة مع حوادث الطرق التي أدخلته إلى المستشفى منذ أسبوعين، بعدما اصطدم بشاحنة على طريق جونية - الكسليك العامّة.

يقول حلاوي، "كنت عائداً من عملي قرابة الساعة الواحدة ليلاً، بعدما أنهيت فترتي المسائيّة، فإذ بي أصطدم بشاحنة على أوتوستراد جونية باتجاه بيروت، لأدخل إلى المستشفى مدّة يومين، ناهيك بالمصاريف التي تكبّدتها طبعاً... وكلّ هذا بسبب غياب الإنارة وقلّة التنظيم". ويسأل ساخراً: "هل طرقات منازل الوزراء والنواب "معتمة" كما الحال عندنا، أو ناس بسمنة وناس بزَيت؟".

أمّا جيلبير جعجع، فيشرح لنا أغرب حادث حصل له: "كنت متوجّهاً إلى الجبل، فإذا بحفرة أشبه بخندق في منتصف أوتوستراد جونية تُسقطني عن دراجتي النارية، التي تحطّمت وتسبّبت بكسر يدي وطرحي في الفراش نحو شهر".

ويلفت إلى أنّ "المشكلة الأساسيّة لم تكن في الحفرة وحسب، إنّما في السيّارات التي اصطدمت ببعضها بعضاً بسبب غياب الإنارة على الأوتوستراد، وبسبب كثرة الحفريات، لتتحوّل الطريق إلى مدينة ملاهٍ تدور فيها السيارات بشكل جنونيّ، وكأنّنا نلعب "الكارتينغ"، ناهيك بضيق الطريق وتبعات ذلك علينا كسائقين، حيث إنّنا نقود عنّا وعن غيرنا وعن الدولة أيضاً!".

على طرق لبنان نحصد الويلات من حوادث وقتلى وجرحى، حيث كان لجورجيو الشاب الثلاثينيّ حصة من تلك المآسي، واضطُرّ إلى ملازمة الفراش نتيجة سرعة لم يحسب عواقبها، وحُفر علّمته درساً لن ينساه أبداً. يقول جورجيو: "لم أكن أعلم أن الحادث يحصل في ثانية، ولا أن العمر يُفقد بلحظة حتّى مرّ شريط حياتي أمام عيني بعدما اصطدمت سيارتي بـ٣ سيارات على طريق ريفون، لأُصاب بكسور ورضوض عدّة في مختلف أنحاء الجسم، فحتّى غمرة ابنتي، التي كنت أتوق إليها، أوجعتني... عندها فقط أيقنت قيمة الحياة".

"الموت المتنقّل"

تتراكم الأزمات في البلاد منذ أواخر العام ٢٠١٨، في حين تدنّت السّلامة المروريّة على سُلّم اهتمامات المسؤولين، ناهيك بعدم توافر الأموال المخصّصة للصيانة وتوابعها، لأنّ الدولة "مفلسة"، حسبما أشار مصدر مطّلع لـ"النهار".


١١٣ حادثَ سير منذ بداية تموز و"الحبل عالجرّار"!
سجّل شهر تموز الحاليّ حتّى الساعة نحو ١١٣ حادث سير، وفقاً لغرفة التحكّم المروريّ، وأكثر من ١٣ قتيلاً ونحو ٢٠ جريحاً.

ومقارنة بالأشهر الماضية، يُعتبر هذا الرقم قياسياً لا بل مأسوياً، إذ تعكس الأرقام واقعاً أليماً تعانيه الطرق غير المحصّنة ولا المؤهَّلة للقيادة لا سيّما ليلاً، في ظلّ غياب الإضاءة نتيجة شحّ الكهرباء والمازوت من جهة، وبسبب الحفريات و"المطبّات" غير المرئية من جهة ثانية.

في السياق، أفاد مصدر في قوى الأمن الداخلي لـ"النهار" بأنّ حوادث السير تراجعت في لبنان منذ بداية العام حتّى يومنا هذا، حيث تمّ تسجيل ١٤٤٨ حادثاً منذ ١/١/٢٠٢٢ حتّى تاريخ ٣١/٦/٢٠٢٢، أي بنسبة انخفاض بلغت نحو ٣٨.٨١ في المئة، بالإضافة إلى تراجع عدد الجرحى بنسبة ٣٧.٩٢ في المئة، والقتلى بنسبة ٢٩.٣٥ في المئة.

بالعودة إلى العام ٢٠٢١، الذي لم يمرّ مرور الكرام، خسرت ٣٧١ عائلة أولادَها في حوادث سير مختلفة، وعاشت ٣٨٤١ عائلة الألمَ والعذابَ نتيجة إصابة أحد أفرادها بجروح، خلال ٢٨٨٥ حادثاً، وفق إحصائيّات صادرة عن قوى الأمن الداخلي، حصلت عليها "النهار".

المسؤولية المغيّبة
 
بدءاً من ظلمة الطرق، وصولاً إلى الاستهتار بالحياة، والقيادة بسرعة جنونية بلا مسؤوليّة، وطبعاً غياب الرقابة من الجهات المسؤولة، ما الحلول المطروحة لمواجهة الأزمة؟ وهل هي فعّالة؟

"مأساة وفوضى تُغيّر المعادلة وتُنذر بما هو أسوأ"، هكذا وصف مؤسّس الـ"يازا" المحامي زياد عقل واقع الحال في ما يتعلّق بالطرق، في حين نشهد انعداماً كاملاً لجهة تطبيق القوانين في هذا الإطار، مذكّراً بـ"مجزرة عرسال"، التي وقعت قبل يومين، والتي راح ضحيّتها ٩ أشخاص أبرياء، مشيراً إلى أنّ "التحقيقات إجمالاً في حوادث السير في لبنان تكون صوَريّة وشكليّة فلا تصل إلى نتائج بإمكانها ردع أو منع سقوط ضحايا آخرين".

وفي ظلّ غياب رقابة الدولة، وجّهت الـ"يازا" نداءً عبر "النهار" إلى المواطنين، ناشدتهم فيه توخّي الحذر أثناء القيادة، وصيانة المركبات بشكل دوريّ حفاظاً على السلامة الفردية والعامة، في حين أنّ أرقام الحوادث التي نشهدها يوميّاً "مخيفة" مقارنة بمساحة لبنان وعدد سكّانه، خاصّة أنّنا على أبواب فصل الصيف ومع عودة المهرجانات والاحتفالات".

بدوره، أشار الخبير في إدارة السلامة المروريّة كامل إبراهيم في حديثه لـ"النهار" إلى أنّ "المشكلة الحقيقية لا تكمن في صيانة الطرق بل في القوانين التي لا تطبّق، وبالتالي التي لا تُلزم المواطنين بالالتزام بها، ممّا يزيد من حوادث السير، ويعرّض حياة المئات إلى الخطر بصورة يومية"، معتبراً أنّ "حوادث السير ليست قضاءً وقدراً بل مسؤولية ناتجة من خلل معيّن، ولا بدّ من معالجته مهما كان".

في هذا الإطار، يرى إبراهيم أنّه لا بدّ من "معالجة الخلل الحاصل وعدم تقاذف المسؤوليات التي لن توصلنا إلى أيّ مكان، فأرقام حوادث السير أعلى بكثير من تلك التي يُصرّح عنها، ومعظمها ناجم عن الكحول أو السرعة أو عدم التقيّد بتدابير السّلامة المرورية لجهة السرعة أو وضع حزام الأمان، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الأسباب ليست جريمة، وبالتالي يجب عدم الاختباء خلفها تحت شعار غياب الدولة أو وجودها، حتّى ولو كان الأمر حقيقياً، لأنّ الأمور لا تعالج بهذه العقلية".

أمّا عن الحلول المطروحة، فيلفت الخبير إلى أنّ "المعالجة الفعليّة تبدأ من تطبيق القوانين، ومن التشدّد في ذلك، لكي يقتنع الشعب بضرورة التغيير والتقيّد بالأنظمة"، مشيراً إلى أنّ "وزير الداخلية بسّام مولوي يتحمّل مسؤوليّة في هذا السياق باعتباره رئيس اللجنة الوطنية للسلامة المرورية، التي لا بدّ من أن تجتمع مرّة في الشهر لمناقشة أوضاع الطرق وسبل معالجة المشكلات التي تطرأ في هذا الإطار. ولكن للأسف، فعلى الرغم من الحادث المأسويّ الذي وقع في عرسال، لم يدعُ الوزير إلى أيّ اجتماع، ولم يحرّك ساكناً، وهنا الخطورة الفعلية، فلو أنّ كلّ جهة تحمّلت مسؤوليّاتها لما وصلنا إلى هذا الدرك من الخطورة، ولا إلى عدد الحوادث الذي نشهده مؤخّراً، والذي سيرتفع بما أنّه موسم الصيف بطبيعة الحال".
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium