لم يعهد لبنان تضافراً في الأزمات واختلالاً في مفاصل دولته، على النحو الذي تقاسيه اليوم كلّ مناطقه من الشمال إلى الجنوب. وبطبيعة الحال، ليست طرابلس المنطقة الوحيدة الغارقة في المعاناة، لكنّ طرابلس "المنطقة الوحيدة" مثلما أمست في ظلّ حرمان مزمن من الخدمات والمشاريع. ولم يكف هذا الحرمان صرخات أبنائها الذين تتضاعف مآسيهم لتأمين بديهيات العيش، من كهرباء وطعام وبنزين.
انفجار أمني؟
في هذا السياق، أفاد مصدر أمنيّ "النهار"، بأنّ "طرابلس على فوهة بركان أمنيّ، لن تخمده أيّ حكومة مرتقبة. بل على العكس، قد يفضي تشكيل الحكومة الى حال عدم الاستقرار بشكل ممنهج في طرابلس. هناك تخوّف كبير من عودة سيناريو فترة 2008-2014 التي شهدت انفلاشاً للسلاح"، مشيراً إلى "إعداد سريّ على حمل السلاح بين مجموعات تحرّك الشارع منذ أحداث اقتتال التبّانة وجبل محسن وغيرها بعد "الثورة"، إلّا أنها قد تتخذ غطاء الانفجار الاجتماعي وسيصعب ضبط الشارع على إثرها".
ويضاف إلى هذه الظروف المستجدّة، انكشاف طرابلس العضوي على التدهور الاجتماعي والاقتصادي، ما يسهّل استغلال هشاشة مواطنيها الأكثر حرماناً للتعبئة الأمنية، فملأ فراغها السياسي حضور الأمن في الشوارع وفي إدارة الملفات.
لهذه الخصوصية تداعيات وخيمة، أحدها وأكثرها هواناً على المواطن الطرابلسي غياب التغذية الكهربائية، التي تشهد انقطاعاً مستمراً من محطة دير عمار المعنية بالتغذية الكهربائية التابعة للدولة.
ما يزيد الطين بلّة هو أنّ ضبط صهاريج المحروقات التي يبيعها أصحاب مولّدات وسماسرة في السوق السوداء، بات من اليوميات الملازمة للمدينة، ولا مَن يحاسب على ظلم أن تقبع طرابلس في العتمة.
"الاستسلام أكل منّا وشبع"
وفي آخر محاولات الكشف عن الموادّ المهرّبة، داهمت دورية من الجيش أرضاً في زيتون أبي سمراء، حيث عُثر على نحو عشرة آلاف ليتر بنزين مخبأة داخل مخزن. صادر الجيش الكمية المضبوطة، على أن تسلّم لمحطات الوقود في أبي سمراء بهدف بيعها للمواطنين.
عند سماعه الخبر، قرّر بسام (32 سنة)، أحد سكان المنطقة وربّ أسرة، أن يبكر جداً في نزوله الى المحطة ليملأ سيارته بالبنزين، لكنه بقي 10 ساعات في الطابور، بدون نتيجة!
كان بسام قد ركن سيارته بقرب المحطة في الليلة السابقة، ونزل إلى الشارع عند الرابعة فجراً، يسابق نهوض الناس، ويستدرك "تركت فراشي المبلول بعرقي بسبب انقطاع الكهرباء عن المنزل".
لم يكن الفجر قد انبلج بعد، إلّا أنه فوجئ بالعشرات الذين سبقوه؛ "سيارات على مدّ العين، بعض أصحابها بات ليلته في السيارة، ومنهم من ركنها بجانب المحطّة مثلما فعلت. لقد أغلقت محلّي وعطّلت أشغالي لأجل البنزين. ينبغي علينا كلّ يوم أن نجهز أنفسنا لطابور ذلّ جديد، إما لأجل المحروقات، أو الخبز، أو أبسط حاجة للإنسان. هذه حرب لا أزمة عابرة".
وفيما كان ينتظر دوره تحت الشمس اللاهبة، أطلق صرخة عبر "النهار" قال فيها: "افتحوا لنا الطريق لنخرج من هذا البلد المهين والمذلّ للإنسان، لأنّ الاستسلام أكل منّا وشبع. نحن أموات بهيئة أحياء. لن أتكلّم عن الذين أوصلونا إلى هذه الحال، جميعنا أخبر بظلّامنا!"
معاناة ربّات الأسر
أما المواطنة فاديا، فتعيش لحظة مراجعة ذات مع زوجها الطبيب، الذي انتقل مؤخراً من الخارج الى مدينته طرابلس "لأرى أولادي يكبرون أمامي"، اعتقاداً منه أنّ هذا القرار سيمكّنه من جني ثمرة تعبه وغربته التي عاشها لأجل عائلته.
تبكي وهي تستعيد الرعب الذي عاشته، حين صعد زوجها الذي يعاني مشاكل قلبية 7 طوابق سيراً على الأقدام. عند وصولها إلى المنزل، استلقى أمامها شبه مغمى عليه من الإرهاق والحرّ، وكادت حاله تتدهور للأسوأ.
تصف فاديا هذه الظروف بـ"البهدلة"، مشيرة إلى جانب آخر بائس في هذه اليوميات... "كان يجول لشراء ربطة خبز لأنها لم تعد متوفرة في جميع الأفران، وقد وصل ثمنها الى 15 ألف ليرة".
وليس انقطاع الكهرباء أقلّ مغبّة على جيهان، وهي أم لثلاثة أطفال، يعيشون اليوم في منزل الجدّين لتدارك المزيد من المعاناة.
تروي الأم: "خلال هذا الشهر، كان زوجي يستيقظ يومياً قبل الفجر للنزول الى تصحيح الامتحانات في بئر حسن. وفي كلّ ليلة، كان يفتّش هو وزملاءه عن البنزين في المحطات ليعبئوا سيارة مشتركة تقلّهم جميعاً".
وبعد انتهاء هذه المعاناة، أطلّت معاناة أخرى أشدّ وطأة: "كنت قد اشتريت كمية من الدجاج وحضّرت جميع أصناف الدجاج التي يفضّلها أولادي. جميعها اليوم مرمية في القمامة بعد فسادها. كنت أحاول تدارك رفع الدعم عن الموادّ الغذائية، فاشتريت كميات إضافية لم تصمد".
وتسأل: "لا أعتقد أنني كنت مصيبة في خطّتي، ففظاعة الأسعار في السوق تجعلنا نفكّر، عن أيّ رفع دعم يتحدثون؟ أليس الدعم مرفوعاً منذ أسابيع؟".
إلى ذلك، تستمرّ دوّامة الجحيم في حصاد ما تبقّى من إرادة للعيش في طرابلس، ويلتفّ الفقر والقهر حول خاصرة هذه المدينة لتتحول اليوم بأسرها الى حزام للبؤس، إلّا من رحمته ثرواته وملياراته فاختار أن يعيش خارجها أو خارج لبنان.