مع تصاعد حملات دينية متوقعة ضد نواب مسلمين جاهروا بتأييد الزواج المدني الاختياري قبل إنتخابهم في برلمان 2022 وبعده، تتجّه الأنظار الى حقول الألغام الكثيرة التي سيكون عليهم إجتيازها.
وإن كان النقاش في قضية الزواج المدني "ممجوجاً" واتسمّ لسنوات طويلة بالجمود بعد تماهي المستوى السياسي التمثيلي لدى المسلمين مع الدور الطائفية التي تتمسك بخطاب حديد تجاه من يجرؤ على طرح القضية وترميه بالحرم والخروج عن الشريعة والاجماع الديني، فان ما يجب الالتفات إليه يكمن في أن منتخبي النواب "التغييريين" من السنّة هم في شرائح لا يستهان بها من المحافظين الذين كانوا يدركون هوية مِن اختاروهم لتمثيلهم، ذلك أن الحملات "الاتهامية" بالعلمانية وتأييد الزواج المدني وحقوق المثليين ومنع زواج القاصرات كانت ماثلة خلال الحملات الانتخابية.
وسواء كان من أدلوا بأصواتهم مارسوا تصويتاً عقابياً ضد الطبقة السياسية وبحثوا عن بديل في ظل غياب تركه البعض، أو سواء كانوا من المؤمنين بالتغيير وتجاوزوا النظرة المحافظة التي لطالما حكمت تعاطي ممثليهم مع قضايا مماثلة، فان الأكيد يكمن في هامش تغيير لدى فئة ستكشف حجمها الأيام المقبلة حيال قضايا اجتماعية وازنة.
ولاشك في أن هذه الفئة أدركت مدى التلطي وراء مسايرة المؤسسة الدينية للمضي في سياسات وتسويات لم تأت على الشعب سوى بالنتائج الهدامة.
واحدة من أسس التغيير هي في أن يجاهر النائب في السر والعلن بقناعاته، وهو الأمر الذي لم يكن قائماً في السنوات الماضية.
أذكر جيّداً مصارحة أحد النواب المسلمين المنضوي في لجنة حقوقية بمجلس النواب في المجالس الخاصة بتأييد الزواج المدني وجميع الاصلاحات المطلوبة في قانون مناهضة العنف الأسري، لكنّ على الهواء كان يودّ التركيز حصراً على حق اللبنانية في منح الجنسية لأولادها!
هذا التكاذب الذي وسم ويسم الحياة السياسية، حاولت ١٧ تشرين بما تمثّل من فكر تغييري في ساحات نقاشها التغلب عليه وصناعة معنى آخر لممارسة العمل السياسي عبر محاكاة مجتمع متنوع ومتعدّد في خياراته، فرفعت مجموعات فكرية وازنة ضمنها مشروع النضال من أجل قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، فيما ذهب "تغييريون" الى التمسك بالمبدأ الاختياري محاكاة لبيئات محافظة ومراحل إنتقالية.
خلال الحملات الانتخابية، لم تكن هذه المسائل السجالية عناوين بارزة في برامج النواب الجدد الذين كان عليهم في كل مرة الاجابة على سؤال من الإعلام في هذا الشأن أو خلال لقاء مع الناخبين المفترضين.
ولا عيب في السؤال مهما كانت خلفياته، ذلك أن على النائب أن يملك الأجوبة اللازمة الجاهزة من موقع مسؤوليته.
ومنهم من كان يعود الى إتفاق الطائف الذي تمسك بالدولة المدنية، مستعيدين وجود أعداد كبيرة من اللبنانيين الذين يتزوجون مدنياً في الخارج، مع التأكيد على تفهم المحافظين والابقاء على مسألة الاختيار في البلد المتعدد.
اليوم يتناسى رجال دين يقفون على المنابر الأزمات الاقتصادية الهائلة والانهيار ودولار الـ32 ألف ليرة، ويركّزون هجومهم على النواب ابراهيم منينمة وحليمة قعقور ووضاح الصادق، في مشهد يذكّر باستنفار "يا غيرة الدين". وليتنا نشهد هذا الاستنفار على الأوضاع المعيشية المزرية.
هؤلاء الشيوخ يلعبون دور الوصي الأخلاقي حيث وجب أن يكونوا مدماكاً في ثورة الجياع والمنهوبين، ويتناسون أن دور رجل الدين في عقد الزواج في الدين الاسلامي محدود. ولا آتي بهذا الكلام من رأي شخصي. لقد انتهيت للتو من محادثة طويلة مع رجل دين له صفة وازنة، وهو يعيد على المسامع عشرات المرات أن عقد الزواج في الاسلام مدني، ولا يبرئ من يهاجمون اليوم من على المنابر من المبالغات والاستثمار. النقاش الثابت هو "بزواج مسلمة بمسيحي أو يهودي أو… شخص لا يعترف بالديانة الاسلامية".
وحين تسأل عن مسألة الزواج المدني الاختياري، تكمن المشكلة الفقهية لديهم بفتح الباب على "تدخل في عقيدة المسلمين"، معتبرين أن رفض الزواج المدني غالباً ما يوضع في خانة المسلمين علماً أن الاكليروس المسيحي يرفضه أيضاً. إذاً هو النقاش الجامد الذي قرّر عدد من المهاجمين اليوم وضعه في الواجهة كأولوية من دون مناسبة. هذا ما ظهر من خلال الحملات والجدل المثار على السوشيل الميديا في الساعات الماضية.
ولن تكون هذه القضية أصعب ما يجب على التجربة التمثيلية الوليدة في مجلس النواب خوضه. والأكيد أن الناس ستنظر وتترقب صدق التجربة والممارسة والاصلاح الحقيقي والدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية في قلب النظام الفاسد. الناخبون يختبرون اليوم خياراً آخر. ولعلّ من أبرز الصفات التي وجب المحافظة عليها المصارحة وعدم الازدواجية والانصياع للترهيب الفكري والضغوطات التي ستكثر وتكثر. الناس يريدون نواباً يدافعون عن مصالحهم ولا يرضخون. لنرَ…