"ساعدونا... رح نموت"، صرخات أُطلقت مراراً من داخل السجون اللبنانيّة عسى ولعلّ من يبادر لتسكينها أو إهمادها، فيوفّر لمطلقيها قليلاً من الحقوق، أو على الأقلّ سريراً صحّياً في مستشفى حكوميّ لتخفيف معاناتها في زمن كورونا وجدري القردة وغيرهما من الأمراض التي لا يُفصح عنها. ولكن للأسف، هذه الأمور لا تنطبق إلّا في البلدان المتطوّرة، بينما في لبنان، يموت السجين بسبب عدم توفر المال الكافي لدخوله الطوارئ أو بسبب نقص الأدوية أو ربّما بسبب نفاد المازوت من الآليات العسكرية، أيّ باختصار بسبب سخرية القدر، تماماً كما حصل مع أحد السجناء أمس في مبنى "الدال" بسجن رومية، بعدما عجز ذووه عن تأمين الدولار "الفريش" لعلاجه، ليسقط اليوم ضحيّة جديدة أيضاً خلال أقل من 24 ساعة في المركز نفسه بسبب الإهمال الطبّي الذي لم يعد يخفى على أحد، وفقاً لمعلومات "النهار".
وما بين صرخات السجناء ومناشدة الجمعيات والمحامين وتوضيح القوى الأمنية، تبقى النتيجة واحدة، وهي أن ثمة إنساناً فقد حياته مرغماً بسبب الإهمال، بغضّ النظر عن الجهة المسؤولة، وهنا جوهر القضيّة.
موت بطيء... و"الأعمار بيد الله!"
"الموت البطيء والصامت"، للوهلة الأولى تخاله عنوان فيلم أو مسلسل دراميّ، ولكنه في الواقع ليس إلّا واقع حال السجون اللبنانيّة التي يسقط ضحيّة اكتظاظها وغياب الرقابة الطبيّة فيها بعض السجناء الذين من المفترض أن تتوفر لهم شروط حياة صحيّة ملائمة لحين انقضاء فترة محكوميتهم، غير أن الموت كان أقرب لهم من الحرّية المنتظرة، فكانوا ضحيّة "قلّة التمويل" و"الظروف الاقتصاديّة الصعبة"، وانتهى بهم المطاف أرقاماً تضاف إلى الذين سبقوهم ولم تُذكر أسماؤهم حتّى حفاظاً على ماء وجه الدولة أمام المجتمع والمنظمات الحقوقيّة.
"وزارة الداخلية غير قادرة على توفير المال اللازم لعلاج السجناء، وذووهم حدّث ولا حرج، فمن أين يأتي السجين أو المحكوم منذ ٢٠ عاماً أو أكثر بالدولار النقديّ لدخول المستشفى؟"، يتساءل مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين بطرابلس محمد صبلوح في حديث لـ"النهار"، هو الذي أشرف على حالات عدّة مشابهة قضت في السجون بسبب المرض الذي لا حول لهم فيه ولا قوّة.
لا يختلف اثنان على أن السجون اللبنانيّة من أكثر السجون اكتظاظاً وإهمالاً، لأسباب تتعلّق بالفساد وصولاً إلى "القلّة المالية" التي تواجهها باقي المراكز الحكومية اليوم، فلا القطاع الاستشفائي قادر على تحمّل أعباء السجون، ولا بمتناول وزارة الداخلية تسديد النفقات المتراكمة، فيما تُنفق مبالغ معيّنة شهريّاً لأجل الحاجات الأساسيّة كالكهرباء والطعام والمياه وغيرها، بينما يُعدّ الشقّ الصحيّ ثانوياً أو سبيلاً لمن معه "فريش" دولار، أمّا الفقير أو من لا يملك المال فيبقى رهينة ساعة موته أو شغور سرير في أحد المستشفيات الحكوميّة، إذا استطاع جسده الصمود.
في شباط الماضي، تُوفي 7 سجناء بسبب عدم توفر المال الكافي لنقلهم إلى المستشفى، من بينهم حالة طارئة كانت تستدعي إجراء عملية قلب مفتوح عاجلة ولكن صحة المريض لم تحتمل التأجيل أكثر فمات تحت العملية، والسبب؟ نقص 750 دولاراً وعدم قدرة عائلته على تأمينها.
يكشف صبلوح في سياق كلامه عن مشروع قانون يُحضّر حالياً وسيُقدّم للنواب خلال الأسابيع المقبلة لمعالجة مشاكل السجون عبر تخفيف الأعباء المالية عن كاهل الدولة العاجزة أساساً وبالتالي مساعدة السجين الذي من المفترض أنّها تؤهّله ليخرج كمواطن صالح يخدم مجتمعه ونفسه، ولكن ما يحصل هو العكس، إذ "تُخرّج السجون اللبنانية مجرمين ومرضى بسبب عدم توافر الشروط المناسبة لإعادة تأهيل المحكوم أو الموقوف".
هل السجون ضحيّة الأزمة الاقتصادية وثورة ١٧ تشرين؟
عادة ما يُعلّق البعض تداعيات انهيار البلد على الثورة الشعبية التي وقعت في ١٧ تشرين أو على الظروف الاقتصادية، من دون الرجوع إلى الأسباب الحقيقية والكارثية التي آلت إليها البلاد منذ ١٠ سنوات أو أكثر إلى الوراء، أي "أيّام العز"، عندما كانت السلطة تتقاسم في ما بينها المساعدات المخصّصة للسجون والسجناء "على عينك يا تاجر" وما من حسيب أو رقيب!
سجن رومية أو "مقبرة المحكوم"، كما سمّاه "أ. ب"، أحد السجناء هناك منذ أكثر من 6 سنوات، الذي تواصلنا معه، حيث شرح في حديثه لـ"النهار" أن "ما يُنقل على الإعلام لا يعكس الصورة الحقيقية للسجن، إذ إنّها أسوأ بكثير وازدادت صعوبة منذ سنتين تقريباً، ولا تزال تتفاقم حتّى اللحظة وسط غياب الرقابة من الجهات المختصّة ومساعدات الجمعيات الإنسانيّة التي تُعنى بالسجناء".
يتوزع السجناء على 5 مبانٍ هي: مبنى المحكومين ومبنى الأحداث (يضمّ الجناح "و" التأديبي)، والمبنى "د" والمبنى "ب" والمبنى "ج" الذي أُنشئ أخيراً نظراً لعدم وجود مساحة كافية لاستقبال مساجين جدد، حيث فاقت قدرة استيعاب السجون اللبنانية للموقوفين نسبة ١٨٢ في المئة، حسبما أفاد صبلوح. والآن، وفقاً لتقسيم السجن المذكور، وبعملية حسابية بسيطة، يمكننا استخلاص أسباب الوفيات المفاجئة لعدد كبير من السجناء، فكيف يمكن لزنزانة تتّسع بالحدّ الأقصى لـ15 شخصاً (طبعاً هذا إن كانت تستوفي الشروط الصحيّة والإنسانيّة)، أن تتضمّن أكثر من 30 سجيناً؟!
يُشير المحامي المختصّ إلى أن سجن رومية من المفترض أن يتسع في الحد الأقصى "لـ1500 سجين، إلّا أن العدد وصل قبل نحو سنة ونصف السنة إلى 5 آلاف، أمّا اليوم فيضم أكثر من 3700 سجين يعيشون في ظروف قاهرة، في غرف تحتاج إلى إعادة تأهيل وصيانة وتعقيم، ولا سيّما على أبواب فصل الشتاء، حيث غالباً ما تطوف السجون ممّا يتسبّب بإصابة السجناء بنزلات برد أو أنلفونزا أو أمراض رئة، في وقت لا يوجد فيه على الأقل مستشفى ميدانيّ للكشف على هؤلاء المساجين أو تشخيص مدى خطورة حالتهم لاتخاذ التدابير اللازمة".
أين الدولة والقضاء من "مهزلة" السجون؟
يُؤكّد صبلوح أنّه على استعداد لتقديم شكوى بحادثة وفاة المحكومَين اليوم إذا وافقت عائلتاهما على هذه الخطوة، ولكن في الوقت عينه، يرى أنّها لن تجدي نفعاً لأن "القضاء عموماً يتحفظ على هذا النوع من الدعاوى، ولا سيّما المتعلّقة بالاستهتار الصحيّ في السجون".
في المقلب الآخر، أوضحت مصادر أمنية لـ"النهار" أن "الشائعات تنتشر بكثرة أخيراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومعظمها لا يمتّ للحقيقة بصلة ومبالغ فيها وتستخدم لغاية استغلالية"، مشدّدةً على أن "حلّ مشكلة اكتظاظ السجون ليس بيد القوى الأمنية بل يحتاج إلى قرارات جهات وزارية وأخرى مختصّة، وبالتالي لا يمكن إلقاء اللوم على المؤسّسة التي تعمل على حماية وتأهيل السجناء في كلّ مرّة".
ورداً على المعلومات "المضلّلة" التي تُتناقل، لفتت المصادر إلى أن "السجناء يُعاملون على أكمل وجه ولا ينقصهم ماء أو طعام أو كهرباء". وعن أسباب الوفيات المتكرّرة، أفادت القوى الأمنية أن "الأشخاص الذين قضوا هم بالأساس يعانون من مشاكل صحيّة حتّى قبل دخولهم السجن"، داعيةً "مَن يُشكّك في الأمر إلى اللجوء للتقارير الطبيّة أو تشريح الجثث، ولكن قلّة من يتبع هذه الخيارات إمّا لأسباب دينيّة أو لأنّهم يعلمون الدوافع الحقيقيّة للوفاة بعيداً عن توجيه إصبع الاتهام نحو إدارة السجون".
تبقى السجون الملفّ الأكثر إلحاحاً وحاجة للمعالجة في أسرع وقت ممكن وبأيّ ثمن، فمن العار تكتيف الأيدي وعدم التحرّك بعد سقوط أكثر من 10 أشخاص منذ بداية السنة حتّى الساعة فقط، فربما نضطرّ إلى مواجهة أزمة أكبر قريباً، وستكون عواقبها وخيمة على أمن السجون والمجتمع أيضاً!