يُقبل العام الدراسي الجديد بعد نحو أسبوعين، والواقع التربوي في لبنان يرزح تحت ضغط الدولار والإضرابات وغياب خطّة حكومية واضحة. تتصدّر الأقساط المدرسية المشهد مطلع أيلول، مع دولرة "جزئية وشاملة" فرضت نفسها على إدارات المؤسسات، عقب سنوات أربع لجأت خلالها إلى حلول موقّتة وظرفيّة.
في جولة لـ"النهار" على مؤسسات تربوية كُبرى في لبنان، المدارس الكاثوليكية، المدارس الإنجيلية، "جمعية المقاصد الإسلامية" و"جمعية المبرات الخيرية"، بدا جليّاً وجود فجوة في الأقساط بين مؤسّسة وأخرى، وبين أفرع المدارس أيضاً في المناطق، ضمن المؤسسة الواحدة.
الحدّ الأدنى للأقساط في عينة المدارس المذكورة، يصل إلى 400 دولار و10 ملايين ليرة تقريباً، فيما الحدّ الأقصى يصل إلى 3000 دولار، إضافة إلى 40 مليوناً. هذا التفاوت ينسحب أيضاً على المرحلة الدراسية والخدمات التي تقدّمها المدرسة، فضلاً عن مستواها التعليمي وتصنيفها عالميّاً، وفقاً لما أوضحه مديرو عدد من المؤسّسات.
اللافت أنّ الأقساط بالدولار لا تُدرجها بعض المؤسّسات ضمن بند الأقساط حصراً، بل تُسمّى "صندوق دعم للمعلّمين والموظّفين والنّفقات التشغيليّة"، وذلك تأكيداً على "قانونية" الأقساط بالليرة اللبنانية، فيما مؤسسات أخرى اتّجهت إلى دولرة الأقساط كليّاً لضمان "استقرار العام الدراسي"، ولئلّا تضطرّ إلى فرض زيادات إضافية خلال السنة.
من جولة لوزير التربية للإطلاع على سير الإمتحانات الرسمية. تصوير حسام شبارو.
تُحافظ المدارس الكاثوليكية على أقساطها بالليرة اللبنانية، وتعتبر أنّ ما يؤخذ من الأهل ويُعطى للمعلّمين، بالدولار، يدخل ضمن "صندوق الدعم". لا متوسّط شاملاً للأقساط في فروع المؤسّسات الكاثوليكيّة، بل يعود تحديد الأقساط إلى موازنة كلّ مؤسسة بحسب مصاريفها التشغيلية، إضافة إلى ما تُقدّمه من مساعدات اجتماعية للأساتذة بالليرة اللبنانية، والتزامها ببدل النقل الذي أقرّته الدولة.
يرفض الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان، الأب يوسف نصر، التصريح بأقساط هذا العام، مؤكداً لـ"النهار" أنّ "الفروقات شاسعة بين المدارس، فما تستطيع القيام به مؤسّسة في المدن يختلف كليّاً عمّا تستطيع تقديمه مدرسة مجانية أو ريفيّة أو صغيرة من حيث عدد الطلاب".
ويضيف: "اتّجهنا صوب مساندة الأقساط بالدولار حتى نعطي المؤسّسات التربوية نوعاً من الاستقرار أمام تقلّبات سعر الصرف. وهذه كلّها إجراءات موقّتة، في مرحلة انتقالية، ريثما تقوم الحكومة والمجلس النيابي بإصدار تشريعات تمكّننا من تخطّي الأزمة". أمّا عن رواتب الأساتذة والموظّفين، فيُشير إلى أنّ "الراتب ما زال يُعطى كاملاً بالليرة اللبنانية، فيما تُمنَح حوافز ماليّة واجتماعيّة للمعلّمين بالدولار بحسب إمكانات المؤسّسة".
الآلية المتّبعة في المدارس الكاثوليكية لهذا العام هي نتاج موازنة ارتقابيّة أعدّها مديرو المدارس للعام الدراسي 2024، انطلاقاً من دراسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي لكلّ مؤسّسة، إلى جانب حوار مفتوح مع لجنة الأهل ورابطة المعلّمين، ممّا يُمكّن العائلة التربويّة في "الكاثوليكية" من وضع رؤية ماليّة للأقساط.
ووفقاً لمتابعة نصر، فإنّ مسار التسجيل للعام الجديد "يجري على ما يرام في فروع المؤسسة، والأهل حريصون على تعليم أولادهم، وهناك تفهّم وإيجابية لما فعلته المؤسّسات التربويّة الخاصّة لانتشال القطاع التربويّ من الانهيار".
المدارس الإنجيلية
اتّجهت المدارس الإنجيلية إلى دولرة أقساطها بشكل كامل، فبات معدّل الأقساط يترواح ما بين 1200 و1400 دولار وصولاً إلى 2000 دولار كحدّ أقصى، بحسب المرحلة التعليميّة. وهنا يُبرّر المدير العام للمدارس الإنجيلية الدكتور نبيل قسطا هذا الإجراء بأنّ "اقتصاد البلد أصبح مدولراً، ونحن لسنا سعداء بالوضع الحالي. لكنّنا نتّخذ هذه التدابير مرغمين، فلم يَعُد بإمكاننا ترك الأستاذ براتب يبلغ 100 دولار، والمشهد اليوم عاد إلى ما كان عليه عام 2019".
الاتّجاه إلى فرض الأقساط بالدولار حصراً يُقابله قسطا بالتأكيد على أنّ "لا زيادة إضافيّة على الأهل خلال العام"، لافتاً إلى "دعم الأساتذة ممّن يحتاجون لعلاج طبيّ أو أدوية، ونساعد الأهالي بحسومات على الأقساط على قدر المستطاع".
ويضيف لـ"النهار": "الله يساعد الأهل، ونحن منهم، لكنّ الأهالي يلمسون حقيقة المستوى التعليميّ العالي الذي نُقدّمه لأولادهم في ظلّ الأزمة، وأعدنا تفعيل الاعتمادات الدولية والامتحانات المشتركة مع أوروبا وأميركا، وهذا استثمار لأولادهم، وأنا فخور بالأهالي وتفهّمهم".
"جمعية المقاصد الإسلامية"
ثمّة تفاوت واضح في الأقساط بين مدارس "جمعية المقاصد الإسلامية" ليس مرتبطاً بالموقع الجغرافي للمدرسة، بل بمساحتها والخدمات التي تقدّمها والتجهيزات التي تتمتّع بها مدرسة دون أخرى، من ملاعب ونشاطات وغيرها.
تُعَد مدرسة خديجة الكبرى الأرخص في بيروت، وتتراوح أقساطها ما بين 20 و25 مليوناً، إضافة إلى 1000 دولار في المرحلة الابتدائية، وصولاً إلى 30 مليوناً تقريباً و1800 دولاراً للمرحلة الثانوية، فيما مدرسة عمر بن الخطاب في الطريق الجديدة تتقاضى 30 مليوناً و1200 دولار للطالب في الشهادة الثانوية، على سبيل المثال. أمّا المدرسة الأغلى قسطاً، فهي ثانوية خالد بن الوليد في بيروت أيضاً، والتي تبدأ أقساطها من 40 مليوناً وما بين 2000 و2500 دولار في المرحلة الابتدائية، وصولاً إلى 3000 دولار في الترمينال.
في السؤال عن مدى تجاوب أولياء الأمور مع هذه الأقساط، يرى رئيس "جمعية المقاصد" الدكتور فيصل سنّو أنّ تقسيم المدارس بهذه الطريقة جاء "ليتناسب مع قدرة الأهالي المتفاوتة... فليختر الأهل ما يتوافق وقدرتهم المعيشيّة والمدرسةَ الأنسب لهم".
هذه القفزة "اللافتة" في أقساط "المقاصد" ترافقت مع تحسينات لرواتب الأساتذة بالدولار، إذ يعتبر سنّو أن "السبب الرئيسيّ لزيادة الأقساط هو تغطية الرواتب، وكُنّا السبّاقين لدعم الأساتذة بالدولار كتحفيزات ما بين 50 و100 دولار شهريّاً، وتمت مضاعفة هذا المبلغ بنحو 7 أضعاف. واليوم، لا يقلّ مجموع راتب الأستاذ عن 500 دولار، وصولاً إلى 1500 و2000 دولار بحسب مركزه".
الواقع المالي لمؤسّسات "المقاصد" في بيروت يختلف عنه في الأطراف، إذ إنّ "المقاصد" جمعية خيريّة "لا تبغي الربح"، وفق رئيسها، الذي يؤكّد لـ"النهار" أنّ "معظم أقساط مدارسنا خارج بيروت بالليرة اللبنانية فقط، ونُقدّم دعماً بنحو 80 في المئة من الأقساط"، مضيفاً: "سدّدنا العام الماضي مساعدات لـ66 في المئة من تلامذتنا، وهذه النسبة تُشكّل 40 في المئة من دخل مدارس الجمعية".
وبالرغم من الأقساط الباهظة بالدولار لهذا العام، ومعها مبلغ إضافيّ بالليرة، لا ضمانة لعدم فرض زيادة أخرى خلال العام على الأهالي، إذ يقول سنّو "سنعيد دراسة الأقساط اللبنانية في رأس السنة"، متسائلاً: "إذا وصل الدولار إلى 200 ألف ليرة نهاية العام، فهل يموت الأساتذة من الجوع؟".
"جمعية المبرات الخيرية"
تُقدّم "جمعية المبرات الخيرية" نموذجاً معتدلاً في أقساطها، فلا يتخطّى قسطها بالدولار الـ700 دولار إلّا قليلاً، ممّا يجعلها من المؤسّسات "الأزهد" بين المؤسّسات الخاصّة الكبرى في لبنان. في المناطق الجنوبية والبقاعية مثلاً، تتقاضى "المبرات" قسطاً يصل إلى 400 دولار، إضافة إلى مبلغ يتراوح ما بين 10 و15 مليون ليرة. أمّا في بيروت، فيصّل إلى نحو 700 دولار و20 مليون ليرة، وذلك باختلاف المرحلة التعليميّة.
في حديثه لـ"النهار"، لا يعتبر المدير العام لـ"المبرات" الدكتور محمد باقر فضل الله المبالغ بالدولار أقساطاً، بل عائداً لـ"دعم المعلّمين والموظفين والنفقات التشغيلية"، كنموذج المدارس الكاثوليكية أيضاً، مضيفاً أنّه "لدينا 4800 يتيم نُسدّد أقساطهم للمؤسّسات الرعائية، ونؤمن مساعدات للعوائل المتعثّرة في مدارسنا لإكمال دراستهم".
إلى ذلك، يَعِد فضل الله الأهالي بعدم زيادة الأقساط ثانية خلال هذه السنة، "إلّا إذا انقبلت الظروف في البلد رأساً على عقب، وكنّا قد التزمنا بوعدنا العام الماضي بعدم الزيادة".
التدبير الذي اتّخذته "المبرات" بزيادة "معقولة" في أقساطها، ينسحب أيضاً على معدّل رواتب المعلّمين. فيتقاضى المعلّم، بالحدّ الأدنى، 10 ملايين ليرة، ويصل الراتب إلى 20 مليوناً بحسب سنوات الخبرة، إضافة إلى مبلغ بالدولار. هذا المبلغ بالدولار يفنّده فضل الله وفق الآتي: "جزء ثابت يتراوح ما بين 200 و500 دولار، وآخر متحرّك يخضع لتبدّل الأحوال المعيشية"، مضيفاً: "لدينا مؤسّسات إنتاجيّة تدعم المدارس والمبرّات الرعائيّة، وبالتالي يزداد الجزء المتحرّك من بدل الأساتذة خلال العام".
تصوير مارك فياض.
الكتب والقرطاسية بالدولار أيضاً
ليست الأقساط وحدها هي ما يُثقل كاهل أولياء الأمور هذا الشهر، إذ إنّ المستلزمات المدرسيّة من كتب وقرطاسيّة وزيّ مدرسيّ ورياضيّ يجري تسعيرها أيضاً بالدولار.
في هذا الملف، تلتزم المدارس الكاثوليكية بدورها الوسيط مع الأهل فقط، فتسعيرة الكتب والقرطاسية بالدولار من المصدر. أمّا المدارس الإنجيلية، فتعرض كتبها بالسعر الأدنى المقبول لتتوافق مع إمكانيات الأهل، كما لجأت إلى تأمين كتب مستعملة مع حضّ على تبادلها بين المراحل. في "المقاصد"، الكتب معروضة بالدولار، ويُمكن للأهل شراءها بالليرة اللبنانية. أمّا "المبرات"، فلا تتدخّل في هذا الموضوع، فالكتب تُشترَى من خارج المؤسّسة، فيما الزيّ المدرسيّ متوافر بسعره الأدنى، وترك المديرون هامش الحرية للطلاب في اختيار الزيّ الرياضيّ للتخفيف عن الأهل.
وإلى جانب هموم الأقساط والتكاليف المادية، يتابع اتحاد المؤسّسات التربوية الخاصّة تنسيقه الدائم وتعاونه الكامل بين المدارس، تمهيداً لتحقيق مرحلة التعافي التربوية بعد فحص الفاقد التعليمي في الصيف وإعادة دعم اللغة، مع التأكيد على أنّ المدارس الخاصّة "تبقى تحت جناح الوزارة ونتعاون معها".