من راتب يُساوي ألفَي دولار شهرياً إلى مدخول بـ100 دولار فقط، بعد خدمة لـ28 عاماً في القطاع الرسمي. هكذا تدهورت الأحوال المعيشية للأستاذ موريس غضبان، المُكلّف بمهام الإدارة في مدرسة الأخطل الصغير في جديدة المتن، والذي يُضطرّ إلى الحضور يوميّاً من منزله في عوكر إلى مبنى المدرسة لمتابعة شؤون الإدارة، فيجد نفسه مرغماً على دفع راتبه الشهريّ كاملاً بدل بنزين.
لا يجد الغضبان إلا أن يقول "دخلنا تحت خطّ الفقر... ولا يُمكنني الاستحصال على وديعتي الصغيرة من البنك، فهل يريدون خنقنا؟". ويضيف لـ"النهار": "لديّ ولدان يتعلّمان في الجامعات الخاصة التي تتقاضى أقساطها بالدولار أيضاً، وقد اضطُررنا لتغيير بعض العادات كالاكتفاء بسيارة واحدة للمنزل، فيما التكاليف الأخرى عادت لتُسعّر بالدولار كالسابق من الإنترنت والاتصالات واشتراك الكهرباء وغيرها، إلّا رواتب الأساتذة".
لم يتقاضَ أساتذة الرسمي حوافز الـ4 معاشات المفترضة مطلع أيلول، فوصلت قيمة الرواتب إلى 30 دولاراً فقط، ممّا يُنذر بخطر العجز عن العودة إلى التعليم، إذ يؤكد غضبان أنّ ما يُطالب به وزملاءه ليس سوى "مقوّمات العيش... لا نريد شراء اللحمة يوميّاً، ولا الخروج إلى المطاعم والترفيه، إلّا أنّنا نريد الصمود فقط، فقد وصلنا إلى الحضيض". ويسأل عبر "النهار": من سيؤمّن عملاً لي بعد خدمة 28 عاماً حتى في القطاع الخاص، أعيدوا لي وديعتي وسأتقدّم باستقالتي الآن".
من التعليم إلى قطاع التجميل
الوضع الاجتماعي الخانق فرض على الأساتذة في القطاع الرسمي البحث عن بدائل في محاولة للتغلّب على واقعهم الصعب، كتجربة المعلّمة منى سلهب، التي جمعت ما بين خبرتها لـ25 عاماً في تعليم مادّة الأحياء واستثمارها في مركز للتجميل.
تؤكد سلهب أنّ "السبب الأول لفكرة هذا المشروع هو الوضع المالي الصعب. حين يصبح الراتب لا يُساوي أكثر من 100 دولار لمعلّمة تحمل شهادات عليا، ولديها 25 عاماً من الخبرة في العمل التربويّ، وتُحضّر لتقديم أطروحة الدكتوراه".
تعمل سهلب في مدرسة شفيق سعيد الرسمية في عين الرمانة منذ سنوات، ومسيرتها في التعليم شكّلت حافزاً لها للاستفادة منها في عملها الجديد في مركز للتجميل في الضاحية الجنوبية، إذ تقول لـ"النهار": "سيكون مدخولي من المركز أضعاف راتبي في التعليم الرسميّ... أحبّ التعليم، وتلامذتي أصبحوا أطباء ومهندسين وضبّاطاً، لكنّني سأتوقف نهائياً عن التعليم يوماً ما".
وإلى جانب الخدمات التجميلية، تُقدّم سلهب في هذا المركز دروساً خصوصية في مادة الأحياء أيضاً للقسم الثانوي، ممّا يؤمّن لها مدخولاً إضافيّاً لسداد القروض.
"بين الضمير المهني وجوع عائلتي"
لم يمرّ على تثبيت الأستاذة سماح نزهة في القطاع الرسمي أكثر من 6 سنوات، قضت 4 منها حتى الآن في وضع اقتصاديّ صعب. وقد "وصلنا إلى مرحلة الشحادة، وأستعين بأشقّائي في الاغتراب لتأمين معيشة أولادي".
حال نزهة كحال زوجها المتقاعد من صفوف الجيش، والذي يتقاضى 100 دولار فقط شهرياً، فيما يصل راتبها مع الحوافز الأخيرة إلى حدود الـ180 دولاراً. وتقول لـ"النهار": "نحن فئة ثالثة في القطاع العام، ومن المفترض أن نعيش حياة محترمة يليق بأستاذ ثانويّ، في حين أضطر إلى دفع قيمة راتبي بدل بنزين يوميّاً للوصول إلى المدرسة".
أمام هذا الواقع، تؤكد نزهة أنّه "بات هناك مفاضلة بين ضميري المهني وجوع عائلتي، وأضحى لدينا أولويات في حياتنا". وهذا ما دفعها إلى البحث عن أعمال جانبية في المنزل كالحرفيّات وغيرها، والتوجّه أيضاً للتعاقد ساعيّاً في المدارس الخاصّة.
تتحدّث نزهة لـ"النهار" عن خذلان رابطة التعليم الثانويّ للأساتذة العام الماضي، مؤكّدةً أنّها التزمت بالإضراب ولم تلتحق بالعمل حينها، و"من المفترض ألّا ينطلق العام الدراسي مستنداً إلى وعود؛ فالعام الماضي تقاضينا فروقات بالدولار لشهرين فقط"، وفق قولها، مضيفة أنّ الالتحاق بالعمل اليوم مشروط بـ"تأمين مطالب مُحقّة، أوّلها تحسين المعاشات، وتسوية أوضاعنا في تعاونية موظفي الدولة، والاستشفاء".
رأي رابطة التعليم الأساسي
التخبّط في انطلاقة آمنة للعام الدراسي يتطلّب قرع جرس الإنذار مع سنة دراسية خامسة "مضطربة" منذ العام 2019، ممّا سيُعمّق الفجوة التعليميّة بين القطاعَين الرسميّ والخاصّ، إن عاد الأساتذة إلى إضراباتهم السّابقة؛ وهذا ما دفع رئيس رابطة التعليم الأساسي حسين جواد إلى السؤال عبر "النهار": "لماذا يتحمّل الأستاذ الفشل في السياسة التربوية؟ طلبنا من الأستاذ التضحية مراراً، وفرضنا عليه مواكبة التكنولوجيا بين ليلة وضحاها خلال الحجر الصحيّ، ثمّ سُوّيَت رواتبه بالأرض. لِمَ لا نُحمّل الحكومة والأحزاب والمكاتب التربوية المسؤولية لخلق سياسة تربوية تحافظ على الشهادة في لبنان؟".
تبحث الروابط التعليمية عن حلول قد تُنقذ العام الدراسي، وفق جواد الذي يؤكّد "تواصلنا مع وزير التربية، وطالبنا ببدل مداخيل للأساتذة يساوي 600 دولار. وقد رفع الوزير دراسته إلى مجلس الوزراء لنيل سلفة محدّدة للمعلمين"، إلّا أنّ جواد لا يجزم بإمكانية بدء العام الدراسي مع "وضع سيّئ جدّاً للأساتذة"، ويضيف: "تقاضينا مطلع أيلول، وهو شهر العودة إلى المدارس والدفعات المتراكمة لأولياء الأمور، راتباً يتراوح ما بين 70 دولاراً كحدّ أدنى و90 دولاراً كحدّ أقصى، بينما كان من المفترض أن نتقاضى بدل ثلاثة رواتب هذا الشهر".
صرخة أساتذة التعليم الرسمي لا تتوقّف عند هذا الحدّ، بل يردّ جواد على الأصوات التي تعلو حول المساس بمصير الطلاب، قائلاً: "نعم، سنأخذ الطلاب رهينة "لأنّو جعنا"، ولم نعد قادرين على الاستمرار"، مشيراً إلى أنّ "الأستاذ في رابطة التعليم الأساسي يعمل في وظيفتَين، وأنا رئيس الرابطة أضطرّ إلى العمل في ثلاث وظائف بمقدار 16 و18 ساعة يوميّاً، فهل هذه حياة طبيعية لإنسان؟".
إذن، صورة ضبابية تُرافق التحاق أساتذة التعليم الرسمي بمدراسهم وسط امتناع عدد منهم عن العمل، وتلويح البعض الآخر بالتمسّك بالإضراب، وفي ظلّ غياب خطّة رسميّة من وزارة التربية والحكومة قد تنقذ ما تبقّى من المدرسة الرسمية هذا العام.