أيام قليلة تفصل خرّيجين في الجامعة اللبنانية عن خسارة فرصهم التعليمية في الخارج بسبب إضراب الأساتذة المتفرّغين والمتعاقدين المستمرّ منذ منتصف تموز الماضي. وإن فُكّ الإضراب اليوم، لن يتمكّن الطلاب من إنجاز امتحاناتهم والحصول على إفاداتهم وعلامات المواد في فترة أسبوعين فقط، ما يُعدّ تدميراً لأحلام الشباب بمتابعة دراساتهم في جامعات أجنبية لن تُعدّل روزنامتها إلى حين حلّ مشكلات الجامعة اللبنانية.
يارا، كارول وسارة، ثلاث طالبات في كليات مختلفة، يُعانينَ مصيراً مجهولاً لمستقبلهنّ الدراسي، ومثلهنّ آلاف الطلاب في الجامعة اللبنانية، منهم من لم يتقدّم إلى امتحانات الفصلَين الأول والثاني حتى الآن، فيما الجامعات الخاصة تتهيّأ لبدء سنتها الدراسية الجديدة مطلع أيلول 2022.
في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الفرع الأول، لم تلقَ مطالبات كارول بالحصول على إفادة إنهاء درجة الماستر 1 آذاناً صاغية، وذلك لإتمام أوراقها المطلوبة للحصول على تأشيرة لمتابعة الماستر 2 في فرنسا، بعد تأمين السكن وعقد الجامعة هناك. وبالرغم من تقديم لائحة بأسماء الطلاب الراغبين بالسفر إلى عمادة الكلية، لاستثنائهم من الإضراب، إلّا أنّ العريضة بقيت في الأدراج بعد رفض أساتذة إجراء الامتحانات، وإصرارهم على متابعة التدريس فترة 15 يوماً أيضاً في حال فكّ الإضراب.
أمّا في الفرع الثالث، فلم يتبقَّ أمام يارا سوى 20 يوماً على الأقل للالتحاق بجامعتها في فرنسا، فيما لم تُجرَ امتحانات الفصل الثاني بعد، ما يعني استحالة السفر، بظلّ تقاذف المسؤوليات بين الأساتذة والإدارة. وتقول: "لن نقف إلى جانب الأساتذة، ولن يتغيّر شيء بعد فكّ الإضراب كما حصل في بداية السنة، فنحن الحلقة الأضعف دائماً". إذاً، لا حلول إن بقي الإضراب على حاله، فيما الخياران لدى يارا أحلاهما مرّ: "إمّا الانتقال إلى جامعة الخاصة وهذا يعدّ خياراً صعباً بسبب غلاء الأقساط والاضطرار إلى إعادة السنة الدراسية، وإمّا البقاء سنة كاملة في المنزل".
وعلى الحال ذاته، لم تُنجز كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، والتي أعلن عميدها فكّ الإضراب في شكل مفاجئ اليوم، أيّاً من امتحاناتها النهائية للعام الجامعي 2022، فحُرِم طلابها، كعناصر الأجهزة الأمنية، في مرحلة الماستر، من تحقيق ترقيات، وآخرون من الانتساب إلى نقابة المحامين. وفيما تنتظر سارة تخرّجها هذا العام من كلية الحقوق، تعتبر أنّ "تهالك الجامعة سيؤدي إلى حرمان نصف الشعب اللبناني من العلم".
"استكبار لدى المسؤولين"
صرخة طالبات "اللبنانية" وزملائهنّ يقابلها عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور أحمد رباح بـ"الشكر على صبرهم"، داعياً بأن "ننجح في التخفيف عنهم لمتابعة استحقاقاتهم في الخارج، إذ تكاد مصالحهم تتعطّل"، آملاً بأن "يراجع أهل السطلة ضمائرهم، فنحن نحاول اليوم بكلّ الوسائل الممكنة استكمال العام الدراسي، وإجراء امتحانات الفصل الثاني". كما يأسف لتعرّض "الجامعة لنكسات متلاحقة، بعدما حقّقت خلال السنوات الماضية قفزات نوعية على مستوى الانتاجية والمراتب في التصنيفات العالمية".
يلفت رباح، في حديثه لـ"النهار"، إلى مساعي رئيس الجامعة اللبنانية البروفسور بسام بدران لحلّ أزمة الإضراب، إذ "وقّع مشروع خطّة لتأمين بدل نقل للأساتذة والطلاب، وأجرى اجتماعات مع جهات مانحة منها قطر والبنك الدولي لدعم هذه الخطة، إلّا أنّها لم تجد مسارها للتنفيذ إلى الآن". وبعد أكثر من شهر على إقرار الحكومة المساعدات الاجتماعية لموظفي القطاع العام، "لا يزال الأساتذة المتفرّغين في انتظار تنفيذ المراسيم الثلاثة المتعلقة بالمساعدات بعدما امتنعت وزارة المال عن تحويل المستحقات، من دون توضيح الأسباب"، وفق رباح، مؤكداً أنّ "بدران يتابع الملف يوميّاً مع الوزير، وقد وُعِدنا بتحويلها خلال الساعات الـ48 المقبلة".
قبل وقوع لبنان في انهياره المالي، كانت موازنة الجامعة اللبنانية 260 مليون دولار، منها 14 مليون دولار مصاريف تشغيلية من مازوت ومستلزمات مختبرات وغيرها، أمّا اليوم فموازنتها كاملة دون الـ12 مليون دولار، ما يُخلّف خللاً جوهريّاً في بنيتها. وانعدام الدعم المادي للجامعة يحول دون استمرارها بتقديم خدماتها التعليمية، ما يدفع رباح لـ"اتهام أهل السلطة بتقاعسهم عن مساعدتها انطلاقاً من مكاسب جامعاتهم الخاصة"، ويضيف: "هذه مأساة وطنية وهناك استكبار من المسؤولين والسلطة تطلق حججها الواهية".
إضراب الأساتذة المتفرّغين: إلى أين؟
الضبابية في موقف وزارة المال من عدم دفع مساعدات الجامعة اللبنانية وصرف اعتمادات المراسيم تعمّق المشكلة لدى رابطة الأساتذة المتفرّغين، إذ يعتبر رئيس الهيئة التنفيذية للرابطة عامر حلواني، في حديث لـ"النهار"، أنّ "الحكومة لا تحرّك ساكناً لمنحنا الحقوق، فحتى مساعدة نصف الراتب للقطاع العام لم تُقبض حتى الآن ولا تزال حبراً على ورق، في حين تقاضت القطاعات الأخرى مستحقاتها".
وحيال الصراع بين الحكومة والأساتذة المتفرغين، يُطرَح تساؤل عن حقوق الطلاب، فيما يصرّ حلواني على أنّ "لا علاقة لنا بهذه الأزمة، بل حقوق الطلاب لدى الدولة، ولتُجب على سؤال إذا كانت تريد جامعة وطنية أم لا؟"، مضيفاً أنّ "الوضع النفسي للأستاذ أيضاً لا يسمح بممارسة مهماته"، مطالباً بـ"تصحيح الوضع الاقتصادي عبر سلسلة رواتب جدّية للجامعة لتمكّننا من إنقاذ المستقبل الجامعي، فلا عام دراسيّاً حتى الساعة ولا مجمّعات مؤهّلة لعودة طلابها".
الأساتذة المتعاقدون: لا أمل بإقرار ملفّ التفرّغ
عند كلّ إضراب جديد لأساتذة "اللبنانية"، يعود ملفّ تفرّغ الأساتذة المتعاقدين إلى الواجهة، والذي كان من الممكن إقراره أن يحلّ جزءاً من الأزمة، وسط حالة قلق وغموض يعاني منها الأساتذة، وصولاً لفقد الأمل من إمكان تسوية أوضاعهم مع ملاك الجامعة. وبعد أشهر من المطالبة بتسديد مستحقاتهم المكسورة منذ عامين، لا يزال الانتماء إلى الصرح الوطني يحضّهم لإكمال عملهم، وفق تعبير الأستاذ المتعاقد في كلية العلوم- الفرع الأول علي فارس.
وفي اتصال مع "النهار"، يصف فارس "عقود المصالحة" مع الجامعة بـ"المجحفة والظالمة وغير المنطقية"، إذ إنّها "لا تشتمل على تغطية صحية، وبدل نقل، ومنح مدرسية ولا محفّزات للأساتذة، كالمساعدة الاجتماعية الأخيرة".
لم تستثنِ الأزمة المعيشية وانهيار الليرة في لبنان وغلاء أسعار المحروقات أحداً من كوادر الجامعة اللبنانية وطلّابها، فـ"الأساتذة المتعاقدون والطلاب في خندق واحد"، وفق فارس، متمنّياً أن "يضعوا أيديهم بأيدينا، وليُعلّي الطلاب صوتهم معنا وليس ضدّنا لأنّنا نواجه المأساة ذاتها". ويضيف: "الطلاب يعانون مثلنا بتأمين بدل النقل للحضور إلى الجامعة، وأنّ حضور الأستاذ من الأطراف لتصحيح مسابقاته مثلاً، سيكلّفه قرابة 500 ألف ليرة يوميّاً، في حين أنّ مستحقاته سنويّاً تتراوح بين 20 و30 مليون ليرة، بدل 300 إلى 350 ساعة تدريس".
إلى ذلك، يلقي فارس اللوم على الهيئات الطالبية لـ"عدم مشاركتها سابقاً في اعتصامات الأساتذة، وتسييس فئة منها، فالجامعات الخاصة لن تعلّم الطلاب بالمجان، بينما جامعة الوطن ملك للجميع"، كما يؤكد أنّ "اللوم يقع أيضاً على الأساتذة الذين هاجروا بحثاً عن اليورو والدولار في الخارج، فيما الجامعة بحاجتهم".
المأساة المعيشية التي يعانيها الأساتذة والطلاب معاً لا تقتصر فقط على الرواتب وإنهاء التعليم، إذ إنّ تهالك بنية المجمّعات الجامعية والصفوف بات يستدعي تدخّلاً مسؤولاً قبل انهيار المرفق التعليمي بأكمله، وهذا ما يجمع عليه حلواني وفارس. صحيح أنّها ليست أولى تصدّعات الجامعة الوطنية، إلّا أنّها "الأزمة الأشدّ اليوم بلا كهرباء ولا أدوات لطباعة أوراق الامتحانات"، وفق حلواني، فيما يؤكد فارس أنّ "الحكومة معنيّة بالأمور التشغيلية، فإذا بادرنا بشراء أوراق الامتحانات على نفقتنا الخاصة او التبرّع بها من إحدى الجمعيات، فلا يمكننا حلّ مشكلة تسرّب المياه داخل القاعات على رؤوس الطلاب".
إذاً لا معالم واضحة لمصير العام الدراسي الحالي، قبل السؤال عن العام الجديد، وذلك على الرغم من تأكيد رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران أنّ "هناك عاماً دراسيّاً جامعيّاً مقبلاً، والمطلوب من الدولة تأمين الأموال في شكل سريع لعدد من المراسيم التي صدرت من أجل تأمين الحدّ الأدنى للأستاذ لإنهاء العام الدراسي".
كما أكّد بدران أنّ "الجامعة لن تقفل أبوابها، وهناك اجتماع مع الجهات المانحة في القريب العاجل"، لافتاً إلى أنّ "المطلوب من الدولة الاقتناع بأن باستطاعة الجامعة أن تكون مستشارة لها بكل الوزارات".
الواقع المأسوي للجامعة يلحق بالظلم على أطرافها الثلاثة: الأساتذة والطلاب والإدارة، إلّا أنّ الجامعة لا يمكن أن تحيا بِلا طلابها.