بات مزعجاً ومحزناً إطلاق كلمات ترثي فنّاناً لبنانياً يرحل عن دنيانا. لكن الموت حق، وإن اعترتنا الغصّة ونحن نحاول أن نفنّد مسيرة من استطاع بجهده وعرق جبينه، وفي أحلك الظروف التي مرّ بها لبنان، أن يحجز لنفسه مكانة ثابتة في قلوب الجمهور. ولا شكّ في أن الغصّة تكون أعظم لدى محاولة التعزية برحيل الدنجوان فادي إبراهيم.
قصّة فادي إبراهيم كقصص كثيرين من الفنانين والممثلين، لن تكون – حين سردها - سوى فصل صغير من رواية معتّقة بالعطاء في عالم هذه المهنة الصعبة.
الجميع واكب أخيراً أخبار معاناة الراحل مع غسيل الكلى ومضاعفات مرض السكريّ والضغط، والجميع صلّى لأجل شفائه والتخفيف من عذاباته. ولكن المقرّبين منه يعلمون أنّ الراحل في عزّ مخاضه المؤلم، كان متسلّحاً بالأمل والابتسامة، حتى عندما كانت تخونه دموعه وهو يشكو لأحد الأصدقاء ما يمرّ به، وكيف دارت به أحوال الدنيا راقداً عاجزاً، وكان يسارع في لحظتها إلى مسح تلك الدمعات، ويصرّ على رمي النّكات كي يعود ولو معنوياً إلى فادي إبراهيم المحبّ للحياة، ورسّام الضحكة المتمرّس في سرد "نهفات"، كانت كفيلة بإغراء كثيرين بمجالسته والإنصات إليه.
بداية رحلةِ فادي كانت في فرقة الكشافةِ المدرسيّة، التي كانت تنظّم مسرحيات واسكتشات. انخرط في العام 1979 في فرقة ناصر مخّول الفولكلورية، وشارك معه في شانسونييه "والخير لقدام" لوليد خاطر، ثمّ شارك في مسرحية للأطفال "حكاية ستي أم فؤاد". رشّحه الممثل إيلي صنيفر لأداء دور شخصيّة أجنبية، جيمي جاك الأميركي، في مسلسل "الوحش"، في تجربة كانت الأولى له. ثمّ اختاره الكاتب مروان نجار لـ"حكاية كل بيت"؛ ومَن ينسى مشاركته في إعلان بطارية "رايوفاك"!
أما المشاركة المسرحية للراحل فكانت في "لعب الفار بعبّ الست"، "عمتي نجيبة"، "نادر مش قادر"، و"عقد إيلين".
تعلّم فادي إبراهيم الإلقاء، وضبط مخارج الحروف على يد المخرج والممثل الراحل رشيد علامة، فأسند إليه دور البطولة في مسلسل "وأمطرت ذات صيف"، في العام 1982.
إلى جانب دخوله عالم التمثيل، عمل كمترجم لأفلام وثائقية لـ"تلفزيون لبنان"، كما خاض تجربة الإخراج في مسلسلين: "سقوط امرأة"، و"جود".
الهبّة الرسمية لإبراهيم أتت بعد أدائه دور الدنجوان نادر صبّاغ في "العاصفة تهبّ مرتين"، وبعده بدور عماد سليمان في "نساء في العاصفة". ويذكره الجمهور جيّداً بشخصيّة رمزي في "ورود ممزّقة"، وصاحب الكاريزما في "الباشا". حتى إن دوره في مسلسل "كلّ الحب كلّ الغرام" (الخواجه وجيه) أبكى من عشق متابعته، لذلك كان حضوره بعيداً عن حجم أدواره وازناً.
لم يكن فادي إبراهيم ركناً أساسياً في الدراما اللبنانية فحسب، بل كان عيون المخرجين والمنتجين، لذلك حضر في الأعمال الـ"بان أراب": "عروس بيروت"، "للموت" بجزئيه الأول والثاني، مسلسل "سر" والجزء الثاني منه (التحدي)، "رقصة مطر"، "من... إلى"، "2020"، "شتي يا بيروت"، "لا حكم عليه"، "الساحر"، "النحات" وغيرها الكثير.
كذلك شارك الراحل في العديد من الأعمال الدرامية المصرية، أبرزها مع الزعيم عادل إمام في مسلسل "فرقة ناجي عطالله"، في العام 2012، كما قدّم دوراً مهماً في مسلسل "تحت الأرض" مع النجم أمير كرارة في العام 2013. وشارك أيضاً في مسلسل "الزيبق" مع الممثل كريم عبد العزيز، وعرض في العام 2017.
أما في السينما فحضر في "راشد ورجب"، "القربان"، "الجزيرة المحرمة"، فتيات للقتل (الملازم سليم)، "الانتفاضة"، "ليلة الذئاب".
لم يغب الفنان الراحل عن عالم الرسوم المتحركة أيضاً، فكان صوته مزيّناً شخصيّات ألفها الكبار كما الصغار: "بيل وسباستيان"، "حكمة الأقزام"، "وادي الأمان"، كليمونتين"، "سفينة المحبة".
خلال مسيرته الفنية، كان إبراهيم يسبّب خضّة من فترة لأخرى عندما يُعلن أنّه عزم على الهجرة إلى أوستراليا الحامل لجنسيّتها، وكان التبرير دائماً بأنّه يفكّر في الأمر خوفاً من "البهدلة"، ومن أن يلقى مصير زملائه عندما تسوء بهم حال الدنيا، في ظلّ غياب ضمان الشيخوخة والتأمين الصحيّ. ولدى إعادة طرح سؤال الهجرة عليه، كان يعتمد دائماً أسلوب "أفكر بذلك، ولكنني لم أحسم قراري"، لأنّ اتخاذ قرار الانسلاخ عن الوطن لم يكن أمراً عابراً بالنسبة إليه، لذلك كان يطمئن الجمهور بعدوله عن هذا القرار من خلال مشاركة درامية جديدة.
حال الممثل اللبناني لا تشبه حال الفنان العربي أو حتى الأجنبي، ففي لبناننا لا تزال تعيش كلمة "الفن ما بطعمي خبز" بسبب استمرار النظرة الدونية من البعض إلى الفنان اللبناني الذي يُكافأ بأجر مخزٍ. لذلك بات الدخول إلى عالم التمثيل اليوم ضربة حظّ، فإمّا أن يرفع قاصده إلى دخل عالٍ، وإما أن يدفعه للبحث عن مهنة أكثر أماناً.
في أيام فادي إبراهيم الأخيرة، هبّ كلّ محبّ لتقديم الدعم والمساندة، فلم تقصّر نقابة الممثلين في لبنان، ولم تقصّر وزارة الصحة، ولم يقصّر الدنجوان في زرع ابتسامة العرفان بالجميل، فودّع جمهوره بابتسامة رضى وتسليم لأمر الله. وبالرغم من الظرف الصعب الذي مرّ به، كانت الابتسامة مرافقة له، وفق ما يؤكّد الفنان طوني كيوان، الذي رافقه في أيامه الأخيرة. ويروي لـ"النهار": "كنّا نجلس لساعات، ولم يُشعرنا للحظة أنه مريض بالسكريّ، وأنه خضع لبتر قدميه وغسيل الكلى. على الرغم من هذه المصائب كلّها، كان يضحك ويتحدّث عن الحياة بإيجابية، قائلاً إنّ الأمور ستكون على ما يُرام، وإنّه سيخضع لتركيب طرف اصطناعي وعلاج فيزيائي".
ويضيف كيوان أنّ "الوضع كان صعباً لكنه كان مرتاحاً، وكان يقوّي كلّ من يزوره ويعطي الأمل للجميع".
صحيح الموت حق، لكن الرحيل لم يلق بك أيها الدنجوان!