كانت ليلة قاسية ومرعبة في محيط بلدتَي جناتا- دير قانون النهر قضاء صور، سقط المبنى المؤلف من ثلاث طبقات ومعه سقطت أحلام وضحكات وقصص القاطنين فيه. وُصف الردّ الإسرائيلي بالأعنف منذ 8 تشرين الأول، وبنيرانه وقوة الصاروخ الذي استهدف المبنى المجاور للمبنى المتضرّر استشهدت سالي سكيكي ودلال عز الدين بالإضافة إلى سقوط 19 جريحاً من الأطفال والنساء.
وسط الركام والدمار كانت هناك حيوات لأشخاص يسكنون المبنى، جميعهم حالهم "على قدهم"، لكن إسرائيل لا تفرق بين مدني أو حزبي، ويقف السكان صامدين على شفاههم تعزية واحدة "لا حول ولا قوة إلا بالله".
وبين صور الدمار وألسنة النيران المشتعلة، تظهر صورة طفلين لا يتعدى كبيرهما الثلاث سنوات لتُحرجك وتخرجك من هذا الصمت المطبق. موجعة تلك الصورة بكل تفاصيلها، تُدقق فيها، في ألوانها المتضاربة التي تعكس التناقضات، لون الأبيض الذي يُشير إلى الحياة ولون الدم الذي يشير إلى الوجع والموت. ليت الصورة توصل صراخ الطفلين وتُوقظ ضمائر المجتمع الدولي الغافل عن كل الخروقات المرتكبة بحق الأطفال والمدنيين. ليت العيون تخرج عن صمتها المتألم وتحكي ما عاشه سكان المبنى في ليلة دموية تُشبه ليالي غزة بقساوتها ووجعها وظلمها.
يصف أحد شهود العيان الذي يعيش في مبنى قريب من مكان المبنى المستهدف لـ"النهار" أن صوت الطيران كان قوياً قبل أن نسمع صوت الغارة التي سقطت إلى جوارنا. للوهلة الأولى ظننتُ أن الضربة كانت في منزلي، الصوت كان قوياً جداً. سقط الزجاج أرضاً وعلا الصراخ خارجاً، وسرعان ما اشتعلت النيران خصوصاً أن المبنى المستهدف هو "نشارة خشب" لا يتواجد فيها أحد".
وبرغم من أن الغارة سقطت على "نشارة الخشب" إلا أن الضرر وقع في المبنى الملاصق لها تماماً والذي أدى إلى استشهاد امرأتين وإصابة 19 شخصاً بإصابات متوسطة وخفيفة.
يقول شاهد العيان أن "الصوت كان مرعباً وركضنا سريعاً لانقاذ الناس، ووجدنا بعض قاطني المبنى في الخارج الذين هرعوا عندما سمعوا القصف إلى الخارج، الأمر الذي ساعد في أن تكون إصابتهم طفيفة. أما الذين لم يتمكنوا من الخروج تفاوتت إصابتهم بين طفيفة ومتوسطة، وبعضهم موجود في العناية المركزة".
ويُخبر الشاهد الذي صودف أن الشهيدتين من قريته، أن الشهيدة دلال كانت "حزمت أمتعتها وكان من المقرر أن تكون رحلتها إلى حيث أولادها اليوم، إلا أنها لم تلحق طيارتها وسقطت شهيدة على أرض الوطن. أما سالي التي تسكن مع والدتها وشقيقها لأن والدها يعمل في خارج البلد، كانت في المنزل لحظة الغارة وتوفيت متأثرة بجروحها. هي صبية "متل قلب النهار" إلا أن قدرها كان أن تستشهد بلحظة غادرة لم يتوقعها أحد".
وبينما كُتب للبعض الموت كُتبت لآخرين الحياة، وهذه هي حالة والدة سالي التي كانت متواجدة عند أهلها، وفي طريقها إلى المنزل سقطت الغارة الإسرائيلية ومعها بُترت أمومتها باستشهاد ابنتها. لم تكد تصل إلى أول الشارع حتى دوى الانفجار، وصلت إلى منزلها مثقلة بالخوف قبل أن تتذوق كأس المرارة بوفاة سالي. هكذا هي الأقدار، وهذه هي الحياة التي لا تترك سبيلاً للراحة والسلام في بلد يتأرجح بين الحرب والأزمات الداخلية.
تروي عمة أحد الجرحى في غارة #جناتا كيف سمعت بإصابة شقيقها وزوجته وطفليهما عبر الأخبار المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي. تقول لـ"النهار" إنني "كنتُ أتواصل مع زوجة شقيقي ومن ثم انقطع الاتصال، لأعرف أن غارة استهدفت مبنى قريباً من مبنى سكنهما وأتوجه إلى المستشفى بحثاً عن عائلة شقيقي".
يرقد كل من شقيقها وزوجته في العناية الفائقة في مستشفى حيرام لمتابعة حالتهما لمدة 48 ساعة قبل أن ينقلا إلى غرفة عادية، وتوضح أن "إصابات الأطفال طفيفة، قطبتان لا أكثر والحمدلله أنهما نجتا، أما شقيقها فيعاني من إصابة متوسطة حيث وُضع له جهاز لتفريغ المياه من رئتيه بالإضافة إلى إصابة في الفك، في حين تعاني زوجته من كسر في يدها، كما اخترقت 18 شظية جسدها".
بكت الطفلتان خوفاً وقلقاً جراء كل ما حصل، الأولى تبلغ من العمر 3 سنوات ونصف، والثانية لا تتعدى السنة و7 أشهر. بقيت عمتهما إلى جانبهما حيث مكثا ليلتهما معها في منزلها. تنتظر الوقت للسماح لها بالدخول إلى العناية والاطمئنان على شقيقها وزوجته اللذين كُتبت لهما النجاة من وحشية إسرائيل.
هي المرة الثانية التي تتعرض فيها بلدة جناتا للقصف الإسرائيلي، وكان واضحاً وفق ما وثقت كاميرا "النهار" أن الأضرار التي لحقت بالمنازل والمحال المجاورة كانت جسيمة. ويؤكد رئيس بلدية دير قانون النهر عدنان قصير أن "كل الجرحى والشهيدتين هم من المدنيين وجميعهم مستأجرون في المبنى الذي سقط وتحول إلى ركام. يعاني 4 أشخاص من إصابات متوسطة وهم في المستشفى يتلقون العلاج في حين أن باقي الإصابات والحمدلله جاءت خفيفة، وهم موزعون بين مستشفى جبل عامل وحيرام".
كان وقع الانفجار قوياً، وسقط المبنى والحيطان بلحظات، إحدى الشهيدتين طارت من المبنى ووقعت في الباحة الأمامية. ويقول قصير إن "كل واجهات المبنى انهارت، الدمار كبير. هذه إسرائيل ونواياها إجرامية ولا تٌفرق بين مدني أو حزبي، ولا يمكننا التنبؤ بما يمكن أن يحصل. هذا واقعنا والناس تعيش فيه، هذه الضريبة ندفعها نتيجة المواجهة الكبيرة مع هذا العدو المجرم".
وكانت الضربات الإسرائيلية أسفرت عن استشهاد أكثر من 300 من مقاتلي حزب الله ونحو 80 مدنياً، أي بما يزيد عن العدد الذي سقط في حرب عام 2006، وفقاً لإحصاء رويترز.