يتأرجح لبنان منذ أكثر من ثمانية أشهر بين الحرب المحصورة والخوف من توسعها وبين التسوية المنشودة التي لم تتحقق بعد. لبنان اليوم ليس في حالة حرب كاملة ولا في حالة سلم واضحة، هو في منطقة رمادية يمكن وصفها بالأصعب، لأنها غامضة ومفتوحة على كل الاحتمالات، ولا يمكن التنبؤ بما سيأتي.
ورغم كل الضغوطات الدبلوماسية والإعلامية التي تمارسها إسرائيل، إلى جانب ضرباتها التصعيدية في جنوب لبنان، فإن أرقام الوافدين إلى لبنان وغالبيتهم من اللبنانيين تؤكد أن التهويل المستمر بالحرب لن يمنعهم من زيارة لبنان.
مقابل ثقافة الموت التي تحاول إسرائيل بثّها بطرق مختلفة، يصرّ اللبنانيون على ثقافة الحياة وعدم الرضوخ لكل أنواع التهديدات، والدليل إقبال المغتربين، إذ سجل مطار رفيق الحريري الدولي حركة مشابهة تقريباً لأرقام الوافدين في الفترة نفسها من العام الماضي.
تواصل الدول حضّ رعاياها على مغادرة لبنان، ويواصل لبنان الترويج للسياحة تحت عنوان "مشوار رايحين مشوار" كسياسة معاكسة لما تقوم به إسرائيل. ولم يخفِ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اطمئنانه للأيام المقبلة خلال إطلاقه حملة السياحة للصيف 2024 بالقول: "إرادة اللبناني أقوى من أي مُشكلة وهو مُصرّ على الحياة".
هكذا ينظر السياسيون والمعنيون إلى اللبنانيين، لكن كيف يقرأ المغتربون اللبنانيون وضع لبنان وأخبار الحرب والتهويل وما يرافقها من مواقف وتصريحات وتحذيرات؟ كيف يحللون الواقع اللبناني وهل يترددون في المجيء إلى لبنان؟
يرقب المحامي جورج نخلة المتواجد في "كان" الوضع المأسوي الذي يمر فيه لبنان، وبرأيه "هو الأخطر منذ بدء الحرب في 1975 ويعرف الجميع هذه الكارثة التي حلّت فينا وأسبابها والمسؤولين عنها".
المطلوب اليوم المحافظة على ما تبقى من هذا الوطن – الرسالة والنهوض به وإيجاد معادلة للعيش معاً بسلام خلال السنوات المقبلة حيث تكون ركائزها القانون والحرية واحترام الآخر.
وانطلاقاً من ذلك، يشدد نخلة على أنه "يجب أن يعي اللبناني أن لا بديل عن لبنان ويجب المحافظة عليه برموش العين وقبل فوات الآوان حتى لا نصبح مشتتين في مختلف أنحاء العالم من دون وطن".
وقد تكون ختام رسالته أشبه بحقيقة واضحة يجب التوقف عندها إذ قال: "الله يحمي لبنان من شر أعدائه".
نخلة المقيم في مدينة "كان" الفرنسية، يتابع عن كثب أخبار لبنان، يتأمل ويتمنى، وغيره كثيرون يعيشون في الخارج لكن قلبهم في لبنان وعليه.
من فرنسا إلى إيطاليا، تواصل الجالية اللبنانية أخبار لبنان كلٌ حسب أهوائه وتطلعاته ورغبته في المتابعة. صحيح أن الظروف دفعت بكثيرين إلى الهجرة والبحث عن فرصة أفضل، إلا أن ذلك لا يلغي وطنية اللبناني وحبه لبلده أينما كان.
عندما سئل الشاعر محمود درويش ما هو الوطن؟ قال "ليس سؤالاً نُجيب عنه ونمضي. إنه حياتك وقضيتك معاً".
توضح نور الخطيب التي هاجرت إلى إيطاليا منذ 9 سنوات لـ"النهار" أنها "سافرت إلى إيطاليا للدراسة قبل أن تخوض غمار العمل بعد انتهاء دراستها، "لم تكن الغربة سهلة بالنسبة إليّ، لأن ببساطة لا تجد من يقف إلى جانبك عندما تمرّ بظروف صعبة، ومع ذلك لا أندم على خيار انتقالي من لبنان لأن أبواباً وفرصاً فتحت أمامي لم أكن لأحصل عليها في بلدي لبنان".
تعترف نور أنها مشتاقة إلى لبنان والعائلة، تقول إني "متحمسة جداً لزيارة لبنان هذا الصيف برغم من كل التهديدات والتهويل من المجيء والأخبار التي نسمعها عن التصعيد والمخاوف من اندلاع حرب في لبنان. ولأكون صريحة لستُ خائفة من كل هذه التهديدات لأننا اعتدنا عليها من زمان".
تمنيات ووعود اللبنانيين بالعودة إلى وطنهم يُقابلها اختلاف في قراءة أرقام الوافدين وحركة المطار. لدى الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين قراءته المستندة إلى البيانات ومقارنتها بالسنوات الماضية. وانطلاقاً من ذلك، يرى شمس الدين أن هناك تراجعاً في حركة النمو غير المتوقعة بنسبة 20 في المئة. كيف ذلك ونحن نشهد أرقاماً مشابهة لحركة الوافدين مقارنة بالسنة الماضية؟
تحليل حركة الوافدين
يشرح بالتفصيل أن عدد "القادمين من تشرين الأول 2023 حتى أيار 2024 وصل إلى مليون و757 ألفاً و933 شخصاً مقارنة بمليون و960 ألفاً و788 من الفترة نفسها الممتدة من تشرين الأول 2022 حتى أيار 2023. وبالتالي تراجعت الحركة بنسبة 10.3 في المئة.
في قراءة لحركة الوافدين إلى لبنان، سُجل ارتفاع فيها من العام 2022 إلى العام 2023، وكان من المتوقع أن ترتفع الحركة من العام 2023 إلى العام 2024. ويتابع شمس الدين أنه "اذا أردنا احتساب الزيادة التي لم تحصل، تكون الحركة تراجعت بنسبة 22 في المئة. نحن نتحدث عن نمو لم يتحقق والذي يظهر تراجعاً أكبر من 10 في المئة".
على سبيل المثال، في كانون الأول 2022 وصل إلى مطار بيروت 302 ألفين و979 شخصاً في حين وصل 261 ألفاً و557 شخصاً في كانون الأول 2023، ما يعني أن هناك تراجعاً في عدد الوافدين.
كذلك سجل مطار بيروت في حزيران 2022 وصول 340 ألفاً و317 شخصاً، وغادر 272 ألفاً و64 شخصاً، في حين وصل 427 ألف و854 شخصاً في حزيران 2023، أي شهدنا زيادة في الحركة السنة الماضية مقارنة بهذه السنة التي سجلت قدوم 410 آلاف شخص.
صحيح أن الحركة تراجعت بنسبة صغيرة، لكن لا يمكن المقارنة فقط بالعام الماضي بل يجب تحليل الحركة التي كانت سابقاً والتي شهدت زيادة كان يفترض أن نشهد لها مثيلاً هذه السنة.
ويتوقف شمس الدين عند نقطة أخرى ثانية مهمة تتمثل بأن فترة مكوث القادمين إلى لبنان أقل مقارنة بالعام الماضي. إذاً نحن أمام نمو لم يتحقق وفترة مكوث أقل في لبنان. كما أن القادمين إلى لبنان غالبيتهم من المغتربين اللبنانيين والبقية من السياح العراقيين والمصريين والأردنيين.
وعن أسباب تراجع الحركة نتيجة النمو الذي لم يتحقق، يعيد شمس الدين ذلك إلى عاملين أساسيين: أولهما الوضع الأمني في لبنان وخطر حدوث حرب والعامل الثاني يتمثل بالأزمة الاقتصادية في الخارج التي تنعكس على مداخيلهم بالإضافة إلى أن لبنان يعتبر بلداً غالياً مقارنة بالدول المجاورة مثل تركيا ومصر.
سنوات عديدة مضت واللبناني يبني حياته في الخارج، تواصل البحث عن لبنانيين مغتربين يتخوفون من القدوم إلى لبنان، البعض يتردد في تسجيل فيديو يُحاكي واقعه وكيفية تعاطيه مع الأخبار والوضع اللبناني المتأرجح بين الحرب والسلم ومختلف الأزمات. كثيرون اعتذروا عن التحدث لأسباب خاصة، ومع ذلك، قبل البعض الآخر تسجيل هذه الرسالة لتأكيد تمسكهم وحبهم للبنان وعدم اكتراثهم بالتهديدات التي تخترق الساحة الللبنانية بين الحين والآخر، والتي اشتدت وتيرتها في الأيام الماضية.
وينتصر حب الوطن
يعيش وائل أيوب منذ 15 سنة في دبي، ولكن هذه المدة الطويلة لم تفصله يوماً عن بلده، إذ يؤكد انه "يزور لبنان مرتين في السنة، ولن يتغيّر شيء هذا العام لأننا كالعادة سنزور لبنان كما كنا نفعل دائماً".
وبرغم من كل الأخبار المتداولة والإشاعات كما يصفها وائل فإنه لن يتراجع عن قرار السفر إلى لبنان "أنا هنا اليوم بين أهلي وأصدقائي ونحن سعيدون جداً بهذه العطلة".
وعن عودته إلى لبنان نهائياً، يُجيب بأنه "ممكن حدوث ذلك ولكن البلد بحاجة إلى إصلاحات كثيرة حتى نتمكن من العيش فيه والتطور والشعور بالاستقرار".
يتابع الجميع المستجدات السياسية، يحاولون التحليل والقراءة بين السطور، ويبقى السؤال الأهم هل قرب انتهاء العمليات الكبرى في غزة يعني اقتراب المواجهة الواسعة مع لبنان؟ الكل يترقب وينتظر!
كان للسيدة مهى بركة حسابات أخرى مختلفة، وخارجة عن المتوقع والبديهي. هي التي عاشت سنوات طويلة في هيوستن – أميركا، قررت ومن دون مقدمات أن تحزم حقائبها وتعود إلى وطنها نهائياً. وبينما يتخوف الكثيرون من المجيء إلى لبنان لقضاء عطلته الصيفية، قررت بركة أن تترك الغربة وتستقر في لبنان وتحديداً في طرابلس.
تتحدث لـ"النهار" عن أنه بالرغم من كل ما يجري في لبنان ما الذي نفعله هنا، سؤال يطرحه كثيرون وسأكون صريحة بالإجابة. قررنا أنا وزوجي العودة إلى لبنان بعد تقاعده، وفي النهاية نبقى مغتربين و"ما إلنا إلا بلدنا". وبالفعل عدنا إلى الوطن ونحن سعيدون جداً بهذه الخطوة ونعيش مع العائلة والأصدقاء ونمضي أوقاتاً رائعة".
تواصل السفارة الأميركية وغيرها من السفارات تجديد التحذيرات من المجيء إلى لبنان أو عودة رعاياها، إلا أنها كما تشير بركة "لم نتأثر، ولستُ الوحيدة التي ليست خائفة من الوضع، هناك أصدقاء كثيرون لنا لم يتوانوا عن المجيء إلى لبنان".
وتتمنى أن تبقى "الصيفية حلوة وإن شاء الله ما في شي بيوقف بوجهنا".
أما وائل ترحيني، صاحب مطعم في "مارسيليا"، فقرّر الإنكفاء هذه السنة وعدم المجيء إلى لبنان مع عائلته نظراً إلى الأوضاع الراهنة، "انشالله مننزل السنة الجاية وبيكون الوضع أفضل".
منذ أكثر من عشر سنوات، انتقل إيلي خليفة إلى دبي ويعمل هناك. وكما يشرح خليفة أن "هذا الانتقال لم يمنعه من المجيء إلى لبنان كل سنة. صحيح أن هذه السنة مختلفة بعض الشيء، نشعر بالخوف والقلق ونتابع الأخبار أولاً بأول وأتمنى أن تتجه الأمور إلى الأفضل حتى يتمكن كل لبناني مغترب من زيارة بلده والاجتماع مع عائلته ومحبيه".
لن يتراجع خليفة عن قرار السفر إلى لبنان مثله مثل كثيرين قرروا تحدي كل الظروف لقضاء العطلة الصيفية في ربوع الوطن. وكما يقول "أتمنى أن تستقر الأمور وتهدأ الأوضاع وتكون الصيفية "خير علينا وعلى الكل".
فهل تعلو أصوات اللبنانيين واصرارهم على أصوات الحرب وينتصر صوت الحياة على طبول الموت والقتل، أم أن شهر تموز سيفتح باب الحرب بسيناريوات مختلفة؟