بعلبك - وسام إسماعيل (صور وفيديو)
في زمن سيطرت التكنولوجيا والسرعة على مناحي حياتنا، هناك أشياء قيّمة من تاريخنا تحتاج إلى من يحافظ عليها ويعزّز مكانتها. ومن هذه الأشياء، يتألق فن حياكة السجاد اليدوي الذي يعكس ثقافة وفناً غنيين في المجتمع اللبناني.
تعدّ بلدة الفاكهة في البقاع الشمالي اللبناني مهداً لصناعة السجاد التقليدي، والتي احتضنتها عقوداً طويلة. فقد انتشرت هذه الحرفة الفنية في المنطقة منذ أواسط القرن الثامن عشر وحققت إزدهاراً في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته.
تأخذنا هذه الحرفة التقليدية في رحلة عبر الزمن إلى عصور غابرة، حيث كان البدو الرحل يزيّنون خيامهم بسجاد يتّسم بالفن والإبداع، مُنسوجاً بأيد ماهرة. كانت هذه القطع الفنية تجسّد جوهر ثقافتهم وتراثهم، وتعبّر عن هويتهم الأصيلة. ولايزال السجاد المحبوك يحتفظ بمكانته الرفيعة في البيوت البقاعية، رمزاً للتميّز والجمال، سواء كان معلّقاً على الجدران لإضفاء لمسة تراثية، أو مبسوطاً على الأرض ليرفع من جمال المكان وتألّقه.
مع ذلك، تواجه هذه الحرفة كما غالبية الحرف اليدوية، تحديات جسيمة في خضم المنافسة القاسية من السجاد المنتج آلياً. فتسارع وتيرة الإنتاج وتدني الأكلاف يجعلان من السجاد الآلي الخيار الأكثر إغراءً للعديدين، رغم افتقاره إلى لمسة الروح التراثية والفنية التي تميّز السجاد اليدوي. وقد أسفر هذا الوضع عن عزوف بعض روّاد إنتاجها عن ممارسة هذه المهنة التقليدية، مما ينذر بتهديد وجودها وزوال هذا الإرث الثمين الذي يربطنا بماضينا الثقافي.
لكن ثمّة من لايزال يحافظ على هذه الحرفة ويرفع من قيمتها، سواء كانوا صنّاع السجاد أنفسهم أو محبي هذا الفن التراثي. فالسجاد اليدوي لا يزال يزيّن بيوتنا ويمنحها لمسة أصيلة، محتفظا بروحانية مَن صَنَعَهُ وحكاياته العريقة. وهو بذلك يؤكد أهمية المحافظة على هذا التراث الفني الفريد، ليكون جسراً يربط الأجيال المقبلة بالأصالة والثقافة الغنية.
تظل فاطمة الحلاني، من بلدة الفاكهة في البقاع الشمالي، مُصمّمة على متابعة ممارسة مهنة تميزت بها في الماضي. تعتبر هذه المهنة بالنسبة إليها "تراثاً عريقاً وتاريخاً" ليس لبلدتها الفاكهة فحسب، بل للبقاع ولبنان بأسره.
مع تجاوزها الخمسين من عمرها، عمدت الحلاني الى "توريث" فنون الحرفة وأسرارها إلى بناتها، وباشرت تقديم دروس تعليمية لعدد من المهتمين بدافع من حرصها العميق على استمرار هذا التراث الغني.
وتعرب في لقاء مع "النهار" عن أملها في تدخّل الدولة لحماية هذا التراث الحرفي، عبر تنظيم دورات تصميم تراثية والمساعدة في تسويق الإنتاج ومشاركته في المعارض. فكثير من أبناء الفاكهة توّاقون الى ازدهار هذه الصناعة الفنية مجدداً، إن توافرت الحوافز المناسبة.
وتقول: "عندما كنت في التاسعة، انتسبت إلى عالم الحرفة بفضل والدتي التي كانت هي الأخرى من الأوائل في إتقان فن صناعة السجاد في البلدة، حيث كانت النساء يتفننّ في هذا العمل. أما اليوم، فلم يعد عددهنّ يتجاوز عدد أصابع اليد. لذا، أحرص على نقل هذا الإرث الثمين إلى أبنائي، خشية أن يضيع مع الزمن، ووحفاظاً على هذا التراث الأصيل الذي يتربع في قلوبنا".
وتضيف: "هذه المهنة لا تحتاج إلى التكنولوجيا أو الكهرباء، بل تحتاج فقط إلى بعض الأدوات اليدوية، وهي عبارة عن: النول، المنسج، المشط، المقص، منظفات ومواد للصباغة.
مراحل صناعة السجاد تتكون من خطوات متتالية تبدأ بشراء صوف الغنم من بلدة عرسال وأسواق بعلبك وحمص، بعد تراجع تربية المواشي في منطقة البقاع. يجري بعد ذلك غسل الصوف وتمشيطه لتنظيفه جيداً، ثم تحويله إلى "كبكبات" وغزلها لتحويلها إلى خيوط. هذه الخيوط يجري صباغتها وكبكبتها مجدداً قبل تكوين السجاد الذي يجري عقده عقداً باستخدام أشكال هندسية ورسوم مستوحاة من السجاد العجمي. إذن، تتطلب عملية صناعة هذا النوع من السجاد جهداً وخبرة كبيرة في الحرف اليدوية التقليدية".
يستغرق بسط خيوط السجادة (مساحة 3×4 أمتار) نحو أسبوع، ثم تبدأ عملية حياكة خيوط الصوف وفقًا للتصميم والألوان المطلوبة، لتكتمل بعد شهرين. ويمكن إنتاج ست إلى ثماني سجادات سنوياً على النول الواحد بتوافر عدد كاف من العاملات الحرفيات.
لكن هذا التراث الفني المتميز بات مهدداً بالزوال اليوم. لصناعة السجاد في الفاكهة فضل كبير على أبناء المنطقة، فقد مكّنت عائلات من تعليم أبنائها وساهمت في ارتفاع نسبة حملة الشهادات العليا فيها. لكن غياب الحرفيين المخضرمين وتقدمهم في السن أثّر على اهتمام الشباب بهذه المهنة، خصوصاً مع ارتفاع أسعار السجاد اليدوي مقارنة بالمستورد.