في 14 كانون الثاني 2019، انهار جبل شكّا، رغم التحذيرات التي أطلقها الخبراء الجيولوجيّون والبيئيّون. حتى اليوم، لا معالجات طُبّقت، رغم المآسي وما يحصده الطريق من خطف لحياة شباب وشابات لبنان.
يعود وجود جبل شكّا إلى آلاف السنين، ومعلوم أنّه تعرّض لعدّة انهيارات عبر التاريخ، والسبب تربته الرخوة وعدم إمكان تشجيره نظراً إلى انحداراته القويّة. وهو منذ زلزال عام 551 الذي ضرب المنطقة يتحرّك جرّاء ترابه "المفوخر"، تالياً لا مهرب من الانهيارات، والأكثر أنّها لن تتوقّف بسبب طبيعة الأرض وتسرّب المياه إلى داخلها بسرعة، كونها تربة أقرب الى الكلسيّة.
نفق شكّا، الواقع أسفل الجبل، والذي يربط مناطق الشمال بالعاصمة، يشكّل ممراً إجبارياً لكل المتجهين من الشمال نحو مدينة بيروت وبالعكس، بدأ العمل به مع الأوتوستراد عام 1983. وبعد مرور 40 عاماً، يُعاد ليُطرح السؤال مجدّداً، أين أصبحت الحلول والمعالجات؟
"ما تهزّو واقف عَ شوار"
يشرح المهندس المدني مارسيل منصور لـ"النهار" من خلال دراسة أجراها عام 2019 عن السبب الرئيسي لانهيار الجبل، ويلخّصه بالقول إنّه نتيجة "تراكم عوامل عدّة في آن معاً منها مياه أمطار غزيرة في تلك السنة، بالإضافة إلى تراكم كمية كبيرة من الأتربة على مدى ٤٠ عاماً (تعرية الجبل) خلف "جدران الدعم"، إلّا أنّ ما هو غير طبيعيّ سياسة الإهمال التي اتّبعت، و عدم صيانة الجدران وما خلفها من أتربة وغياب المعالجات الاستباقيّة، واقتصار الجهات المسؤولة على الحلول الترقيعيّة، ما أدّى إلى تراكم المشاكل وانهيار أجزاء من الجبل.
ويلفت المهندس منصور إلى أنّ الدولة حاولت إصلاح الوضع عبر خطوات غير مدروسة، وبتكلفة بلغت نحو 11 مليون دولار، فيما كان بإمكان حلّ المشكلة بأقلّ من مليون دولار، كاشفاً أنّه تواصل مع الوزارة والأطراف المعنية كافّة، طارحاً عليهم حلولاً جذريّة وبكلفة قليلة.
ويضيف: "بدأت هيئة الإغاثة مشروعاً وتوقّفت بعد فترة وجيزة. استُهلّ بعد انهيار الجبل بكلفة تقارب الـ 11 مليون دولار، لكن مع الانهيار الماليّ، تدنّت قيمة الميزانية المرصودة للمشروع بالليرة اللبنانية، وتوقّفت الأعمال بذريعة "عدم وجود التسهيلات المادية".
وأشار إلى أنّ الوزارة طلبت من الجامعة اللبنانية -التي كانت قد تولّت دراسة تعالج هذه المعضلة- إبلاغ المعنيّين بتأخير المشروع، بسبب الشتاء القاسي، فتملّصت وزارة الأشغال من المسؤولية، وأُلقيت على الهيئة العليا الإغاثة، التي لا خبرة لها في هذا الخصوص".
وعن سبب انهيار الجبل عام 2019 وليس من قبل؟ يؤكّد منصور أنّ السبب يكمن بالتراكمات طوال سنوات، ناهيك عن عوامل أخرى اجتمعت في آنٍ واحد، يُضاف موسم شتاء عام 2019 الذي جاء قاسياً بأمطار غزيرة. ورفض "النظرية التي تقول إنّ انهيار الجبل وقع إثر تفجيرات سدّ المسيلحة، بالرغم من معارضته لهذا المشروع، إلّا أنّه ليس لديه صلة بالانهيار، وتمّت التفجيرات قبل سنتين من انهياره".
وزارة الأشغال "تنفض" يدها
هذه المعطيات، وما تردّد في الإعلام بشأن وجود شبهات حول دور وزارة الأشغال ووزيرها آنذاك يوسف فنيانوس، رفض الأخير كلّ هذه الاتّهامات وهي غير موضوعية، وقال لـ"النهار": "لم يكن لوزارة الأشغال أيّ علاقة بالمشروع، إذ كلّف مجلس الوزراء آنذاك الهيئة العلية للإغاثة وفوّضها بكلّ الصلاحيات، ولم تتكلّف وزارة الأشغال بأيّ أموال".
وأضاف فنيانوس: "ساهمت كلّ من الجامعة اللبنانية، جامعة البلمند والجامعة الأميركية بنشر دراسات بشأن جبل شكّا، من دون أيّ مقابل، وأظهرت هذه الدراسات عمر الجبل وتكوينه منذ ملايين السنين، ووضعنا جميع هذه الدراسات في عهدة الهيئة العليا للإغاثة، وبالتالي، لم تُصرف أيّ أموال على المشروع، لذلك، كلّ الاتهامات بالصرف والشبهات هي باطلة، لا يوجد اتّهام لأيّ طرف، "حرام ما حدا ضرب ايدو عل المصاري ولا في اتهام ع حدا".
"كفى حلولاً ترقيعية"
من جهته، ذكّر عضو تكتل "الجمهورية القوية" النائب غياث يزبك أنّه "حين انهار الجبل عام 2019، دأبت بعض المؤسسات والأفراد إلى العمل بطريقتهم الخاصة لرفع الضرر والاستكمال، لكن وضع الجبل لم يعد يحمل "حلولاً ترقيعية"، اذ أنّه بحاجة ماسّة إلى حلّ سريع". ولفت إلى أنّنا "نحاول إعادة احياء المشروع الذي اقتُرح في عهد وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس لكنّه لم يُنفذ بعد وضع ميزانية عالية له، ومع اندلاع الثورة، توقّفت الأعمال ولم تعد الميزانية كافية بحسب متعهّد المشروع".
وخلافاً لما قاله المهندس منصور، اعتبر يزبك أنّ "هذا الجبل تأثّر بتفجيرات سدّ المسيلحة التي جرت، "أنا ابن المنطقة وبعرف" وهذه ليست مسألة سياسيّة، خاصّةً أنّ الأرض في شكّا كلسية، وليست أرضاً صامدة، تزعزعت نتيجة التفجيرات التي خلخلت الجبل، خصوصاً أنّ الأرض مكوّنة من ترسّبات كلسيّة، ونوعيّة التراب الأبيض ساهم في انهياره".
وأضاف: "طلبنا مجدداً من وزير الأشغال علي حميّة طرح المشروع في آخر جلسة "طارئة" لمجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال، من أجل تكليف الهيئة العليا للإغاثة بتولي المشروع، وطُلب اليوم من رئيس الهيئة اللواء محمد خير إعادة تقييم الكلفة، "لنرجع نقلع"، بدعم ماديّ يُموّل من احتياطي مجلس الوزراء والخزينة لرفع الضرّر وإعادة الأعمال. واللواء خير في صدد إجراء التقييم لتقديمه إلى الحكومة للموافقة عليه".
ويشرح يزبك أنّ "هذا المشروع يتضمّن بناء بلوكات إسمنتيّة في جلول الجبل بشكل هندسي متدرّج مع قاعدة عريضة إلى جانب الأوتوستراد، بالإضافة إلى تركيب أعمدة من الإسمنت ودعمها بالحديد وغرزها في ما يقارب 60 متراً في الجبل؛ وذلك سيحدّ من الانزلاقات التي تحدث جراء الأمطار والاهتزازات الأرضية".
وتعقيباً على جواب فنيانوس بأن لا علاقة لوزارة الأشغال بالطريق في شكّا، أكّد يزبك أنّ جميع الطرقات الدولية هي من عهدة وزارة الأشغال، ولكن حين بدأت الثورة والأزمة الاقتصادية "اختفت وزارة الأشغال وشيلوا إيدن من المعادلة"، وكُلفت حينها الهيئة العليا للإغاثة بذريعة "الطابع الطارئ" للمسألة".
وأسف يزبك لتحويل الهيئة لـ"قميص عثمان"، التي تتلقى كلّ الضربات، وهذا دليل على السرطان العميق الذي يتفشّى في أشلاء الدولة اللبنانية".
حلول مطروحة
يلفت منصور إلى أنّ المشروع المُقترح من قبل الحكومة ليس الحلّ الأنسب خاصةً أنّه سيُنفّذ (في حال تمّ الموافقة عليه) على أرض صخرية مفتتة، ويُكلف كثيراً، مضيفاً: "لن تُبنى بلوكات أو جدران جديدة، بل سيعتمد بشكل أساسي على تلبيس الجدران القديمة على الجديدة من دون تغيير شكلها أو طولها، وذلك لن يحلّ المشكلة، هذه الجدران الجديدة ستتثبت بفجوات إسمنتية مدعومة بالحديد. إشارةً إلى أنّ هذا المشروع سيحتاج إلى كمية كبيرة من حديد والإسمنت، وستكون الكلفة باهظة".
واعتبر منصور أنّ من الحلول الأولية، عملية "التجليل" التي غالباً ما تُستخدم في الهندسة، مضيفاً "عملية التجليل هي عملية حفر الأرض على شكل سِهم (جلّ)، تخفّف من الضغط الذي يتراكم وراء الحائط، حيث تبقى مسافة بين قمّة الحائط وسطح الأرض، وفي حال وقوع أيّ انهيار لأجزاء من الجبل، تتجمّع في قعر الحائط، تالياً إنّ عدد "الجلول" يرتبط بانحدار الأرض، بالإضافة إلى علو الجبل وإمكانية التعمّق في تربته مع تأمين مسافة حماية أو security strip ".
(صورة من الدراسة)
من جهته، أعتبر الدكتور في جامعة البلمند طوني جرجس في حديث لـ"النهار" أنّ الحلول والمشاريع لا تنتهي في عالم الهندسة، وجميعها متاحة ومن شأنها أن تعالج المسألة.
وتعقيباً عن الكلفة، أكّد جرجس أنّها ستكون مرتفعة في جميع الأحوال، جراء التربة الرخوة للجبل، وصعوبة التغلغل في أرضه.
ولفت إلى مشروع اقترحه من قبل، وهو كناية عن إعادة بناء الحائط الموجود على الجهة اليمنى من الطريق، يقابله حائط فاصل بين أوتوستراد بيروت-طرابلس، وطرابلس بيروت، إلى أنّ يجمع بين الحائطين سقف يحمي الطريق المتصلّ بالجبل، ليكون بمثابة نفق، مؤكداً أنّ هذا المشروع يحمي المواطنين والمنطقة في حال وقوع أيّ انهيار، حيث أنّ هذه الطريقة ستسهّل العمل وتقلّل الكلفة مع الابتعاد عن الجبل.
وشدّد جرجس على أهمية "preventive maintenance "، في حين أنّ الدولة يجب أن تتصرّف قبل وقوع الكارثة. ففي جميع دول العالم ينفّذ كلّ عام ما يسمى بالـ visual inspection، وهي "إشراف نظريّ"، بالإضافة إلى اشراف معمّق كلّ 5 سنين يسمى in depth inspection تعتمد على دراسات عينية.
هذه الحلول جميعها في عهدة المسؤولين الذين من واجبهم أنّ يتصرّفوا قبل فوات الأوان، مع خطر وقوع أجزاء إضافية من الجبل، إذ أن لا مهرب من انهياره مرّة أخرى، لكن بإمكاننا تفادي كارثة إنسانية، وسيخطف انهياره هذه المرّة أرواحاً بريئة.