ليست ظاهرة التحرّش الجنسيّ جديدة على المجتمعات البشرية، فمنذ بداية الاتصال بين البشر لم تتوقّف مضايقات المرأة، ولم تزل تواجه مواقف محرجة على امتداد السّاعات والأيام، ما يترك في نفسها أثراً محفوراً، تحتفظ به ذاكرتُها مدى الحياة، بل يُسبّب لها مشكلات نفسيّة تمنعها من متابعة حياتها بطريقةٍ عاديةٍ.
اليوم، يشهد المجتمع اللبناني اتّساعاً وانتشاراً لهذه الظاهرة بسبب الأزمات الاجتماعية الناجمة عن الانهيار المالي، إذ ارتفعت نسبة التحرّش إلى 184% في لبنان، وفق التعريف المعتمد للتحرّش الجنسي، وهو أيّ عمل أو تصرّف تضمّن إكراهاً جنسيّاً، بشكل لفظيّ أو جسديّ. ولطالما اعتبر هذا الموضوع من المواضيع الحساسّة في المجتمع الذي يُصنّفه كـ"تابو"، حيث تمتنع المرأة بالتالي عن الإفصاح والتكلّم بشأن تجربتها المؤلمة.
وفي مواجهة التحرّش الجنسيّ، تنشط الجمعيّات والمؤسّسات المدافعة عن المرأة وحقوق الإنسان في إطلاق الحملات المختلفة لحماية الحقوق، ونشر الأمان النفسي والاجتماعي ولمناهضة التحرّش الجنسي. وتبذل هذه الجمعيّات جهودا لتطبيق وتحسين القانون الذي أقرّه مجلس النواب في 2020، وينصّ على تجريم التحرّش الجنسي. لكن بحسب الناشطة ورئيسة تحرير "شريكة ولكن" حياة مرشاد، هذا القانون لا يتّم تطبيقه بشكلٍ فعّالّ.
وقالت في حديث مع "النهار" إنّ الجمعيات النسائية تحاول تشجيع الفتيات على الإفصاح عن تجاربهنّ المؤلمة والخروج عن صمتهنّ. اليوم، نشهد الكثير من قصص الناجيات اللواتي أفصحن عما تعرّضن له من حوادث تحرّش كان قد مضى عليها الزمن، وحصدت هذه القصص اهتماماً على مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعل معها الرأي العام بما ساهم في رفع منسوب الوعي تجاه هذه القضيّة الأساسية في مجتمعنا".
وفي إطار حملة "أريد أنجيلا"، اعتبرت مرشاد أنّ هذه المبادرة تساهم في التخفيف من التحرّش، وتسمح للمرأة بأن تتصرّف في اللحظة نفسها، وأن تحمي نفسها من ضرر متوقّع.
ما هي حملة "أريد أنجيلا"، ومَن أطلقها؟
أطلِقت هذه الحملة في المملكة المتحدّة من قِبل مواطنة إنكليزية تُدعى هايلي شايلد، وهدفها أن تساعد الأشخاص الذين يشعرون بعدم الأمان أو التهديد على طلب المساعدة من خلال الاقتراب من موظف يعمل في المكان، ثم يسأل عن "أنجيلا".
تشير هذه العبارة المشفّرة إلى مضمون نفسيّ مفاده "لا أشعر بالأمان"، وأنّني بحاجة إلى المساعدة، التي يجب على الموظفين أن يؤمّنوها عبر مساعدة المستهدفة وإخراجها من الموقف الحرج، من دون إحداث أيّ "بلبلة". وتكون الخيارات عديدة، منها إخراج الفتاة من الباب الخلفيّ، أو توجيهها إلى غرفة فريق العمل وإعطاؤها وقتاً لتفكرّ في خطواتها المقبلة.
اليوم، بدأت هذه الحملة بالانتشار في لبنان على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد تداولها في البلدان الغربية واستخدامها في الملاهي كوسيلة لتفادي التحرّش الجنسيّ قدر الإمكان.
بعد التكلّم مع مستخدمي هذه المواقع، اتّضح أنّ هذه الحملة بدأت تُعرف على نطاق واسع في لبنان، لكن ليس على صعيد التنفيذ أو التطبيق، بل في سياق التداول، ممّا يساهم في تعزيز حضورها في المجتمع اللبناني.
وفي حديث مع "النهار"، قالت مستخدمةٌ تتابع هذه الحملة على "إنستغرام": "أعتبرُ هذه المبادرة مهّمة للغاية، لأنها تساعدنا على نشر الوعي وتفادي هذه المواقف المضطربة؛ لذلك يجب أن يتّم تطبيقها وليس فقط التكلّم عنها".
وأعربت مستخدمة أخرى عن أسفها لعدم استخدام هذه المبادرة في لبنان، في حين أنّها أصبحت معروفة في العالم.
"الوقاية أفضل من العلاج"
تَعتبر الاختصاصيّة في علم النفس "أليسا رشدان" أنّ هذه المبادرة مهّمة، وبإمكانها أن تطمئن وتوعّي النساء في حال تعرّضهن لتحرشٍ جنسيّ؛ ومن الملحّ أن تكون في ثقافتنا وتداولنا.
وشرحت رشدان أنّ هذه الحملة تحمي من الأبعاد الجنسيّة، مضيفةً "في حال التعرّض لموقف محرج، سواء أكنّا من النساء أم الرجال، فالواجب أن نعلم بأنّ هناك من سيساعدنا، وأن الحِمْل لن يقع على أكتافنا، والأهمّ أنّ هناك من سيحمينا ويصدّقنا، ما يريح الفرد من ضغطٍ نفسي".
وتشير إلى أنّه في حال توسّعت هذه المبادرة فستخفّف من نسبة التحرشّ الكثيف، وسيعلم حينئذٍ المتحرّش أينما ذهب أن فرداً ما سيكون في عون ضحيّته المقبلة، وسيولد شعور الأمان في مجتمع يسود فيه الخوف.