"مَن قال إنّ الفقر ليس عيباً كان يريد أن يكملها ويقول بل جريمة، ولكنّ الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحارّ". هي عبارة للثائر تشي غيفارا من الممكن إنزالها على واقع المواطن اللبنانيّ، إلّا أنّ الأغنياء هنا ليس المقصود بهم طبقة من الناس حاضرة في مجتمعنا بقدر ما نعني حكّام البلد وأركان السلطة الذين حقّقوا الثراء على حساب أرواح اللبنانيين.
خلال جولة لموقع "النهار" في منطقة النبعة، تردّدت على مسامعنا جملة "متّكلين ع اللّه". دموعٌ في عيون تئنّ من الفقر والتعب. حياة مظلمة مختبئة تحت أنقاض بؤس يتناثر بين أطياف العائلات. شعبٌ يُحتضر من ظلم حكّامه. حكايات تسرد واقعاً مريراً: شبابيك مغطّاة بالأقمشة، بيوت من دون تدفئة ومن دون سجّاد، أدوية مقطوعة، ورفوف دكاكين فارغة.
حين نجول في هذه الأزقة والشوارع المعتمة، والمكتظّة بحكايات موجعة لا تفارق الذاكرة، لا يُخيّل إلينا أنّنا في لبنان الأمل والبحبوحة والانفتاح والحياة والطمأنينة وسويسرا الشرق، بل لبنان البؤس والقنوط، ولبنان المنعزل والمغلق.
ليس الهدف أن ننشر أجواءً سلبيّة نعيشها يوميّاً، بل أن ننقل واقعاً مأسويّاً، فلعلّ ضمائر بعض المسؤولين تستفيق لحظة ليلتفتوا إلى وجع الناس ومعاناتهم.
حين جُلنا في شوارع النبعة، وسألنا سكّانها "كيف ستؤمّنون التدفئة في الشتاء؟"، كانت إجاباتهم بسيطة "وِقْفت ع الشتي ليه؟ نحن كيف عايشين؟ ما إلنا غير اللّه".
قاروط كيوليان "الحمد اللّه على نعمة الصحّة"
في بداية الجولة، استقبلنا قاروط صاحب المحلّ المتواضع الذي يبيع أدوات مستعملة عند مدخل أحد الشوارع. يعيش مع زوجته ومولوده الجديد في غرفة واحدة، وحمّامهم مشترك، ويصل إيجار سكنه إلى 50$ شهريّاً. لقاروط أربع وظائف، فلا يكلّ، ولا ينام، بغية تأمين أبسط الحاجات لعائلته، من حفاضات وحليب وصولاً إلى الدواء المقطوع. وفي ما يخصّ التدفئة، يجيب: "ابني مولود جديد، ولا أستخدم إلّا بطّانيّة لتدفئته. وبالرغم من الرّطوبة، لن ندعه يشعر بالبرد. سندفئه بأجسادنا إذا اضطرّ الأمر". وبالرغم من الظروف المستفحلة، لم يحمل قاروط إلّا التفاؤل، وكان ينهي كلّ جملة "الحمد للّه على نعمة الصحّة".
أميرة بزّي: "لا حياة لمن تنادي"
أميرة صاحبة الدكّان الفارغ، التي لم تجد شيئاً لملء دكّانها الصغير إلّا الإعاشات التي تُمنح لأهل الحيّ في بعض الأحيان، تروي قصّتها بحسرة، وتقول: "لديّ غرفة وراء الدكان، أعيش فيها بمفردي، بعدما تُوفّي زوجي قبل سنتين. لكن "كلّو نشّ". منزلي غير صالح للسكن، ولكن لا آذان لمن تنادي".
عملها في الدكان ليس في أحسن حال، فحركة البيع بطيئة، والربح قليل، فحال الناس والمنطقة تمنعها من رفع الأسعار وتحقيق الأرباح، لأنّ "أهل الحيّ على قدّن".
العمّ كميل: "لا ننتظر إلّا رحمة ربّنا"
في أحد شوارع المنطقة، نلتقي العمّ كميل بائع الخُرضوات، الذي فقد الأمل في أيّ فرج قريب، فيقول: "أرى أنّ الفرج بعيد. ليس في الأفق ما يوحي بأنّ الآتي من الأيام سيكون أفضلَ، ولا ننتظر إلّا الرحمة من ربّنا".
وحين سُئل هل تلقّى أيّ مساعدة من جمعيّة ما، أجاب: "نرى الغريب مغموراً بمساعدات ماليّة بالدولار، وأنا كلبنانيّ لا يساعدني أحد بأيّ قرش، وما حدا بيسأل عنّا ولا بيطّلع فينا".
العمّ سليمان: "شو بدكن تعرفوا، الحالة بتحكي عن حالها"
العمّ سليمان بائع خرضوات، "على قدّ حالو"، يعيش بمفرده مع الرطوبة والعفونة في غرفة وحيدة يغمرها الظلام. حين التقيناه كان يقشّر البطاطا المضروبة ليأكل، لأنّ "هذا كلّ ما لدينا". يُحاول العمّ سليمان وسط صعوبات الحياة أن يصارع الواقع الظالم، "ليس لدينا غير اللّه". يعاني من أمراض مزمنة عدّة كالسكّري ومرض القلب، لكنّه عاجز عن تأمين دوائه.
يوسف جرجس: "ما أحتاج إليه هو سجّادة للتدفئة ودوائي فقط لا أكثر"
حين دخلنا بيت يوسف الصغير، لم نجد إلّا فراشاً قديماً وصوراً على الرفوف، حيث اتّضح لاحقاً أنّ يوسف تبرّع بسجّاد منزله لشخص "أفقر منه". تخلّى يوسف عن أبسط وسيلة للتدفئة، فما يهمّه في المقام الأوّل أدويته المقطوعة. "ابني عسكريّ، ومعاشه لا يساوي مليون ليرة، وأدويتي غالية ومقطوعة، ولا أعلم ماذا سأفعل، ولا كيف سأتحمّل هذا الشتاء القاسي".
من الأدوية التي يحتاج إليها يوسف:
Jentadueto, Brilinta, Flosta, Janumet واللائحة تطول.
مشاهد ليست كالكلمات، تعبّر عن عمق الأزمة التي يعانيها شعبنا، الذي أهمله المسؤولون، ولم يهتمّوا لأمره، فيما هو غنيّ بكبريائه وطموحه وأحلامه.