خلف الواجهة المدمّرة ما هو أعمق بكثير من الزجاج المتناثر، لوعة قلب على بلد لم ولن يتخلّى عنه من أحبّه وحافظ على إيمانه به برغم الطعنات واللعنات واليأس والانهيار. إنه بلدنا، إذا هاجر كل الشباب، فمن سيبقى بعد عقد أو عقدين من الزمن؟ باقون وصامدون، ولدينا مشروع لحياكة الأمل أيضاً! هو نداء المصمّم اللبناني العالمي زهير مراد، الشاهد والمجروح من النكبة التي عاشتها بيروت في 4 آب 2020.
الصرخة في هذا العدد الذي تصدره "النهار" تتحوّل مشروعاً لإعادة الإعمار وإلباس بيروت ثوب الحياة. ففي رسالة أمل من "النهار" وIMPACT BBDO ضمن حملة RedressLebanon#، ابتكر المصمم العالمي زهير مراد فستاناً فريداً من شبك الأبنية المتضررة جراء انفجار 4 آب، ويباع الفستان بطريقة رقمية (NFT)، على أن يعود ريع التبرعات الى جمعية "إدراك" لدعم قضية الصحة النفسية ومساعدة المتضررين من الانفجار وأهالي الضحايا.
نتعرّف إلى تفاصيل المشروع أكثر في جلسة حوارية جمعت رئيسة "مجموعة النهار" نايلة تويني التي عاشت مرّ الأذى من استشهاد جبران تويني مروراً بتدمير العاصمة وما لحق بـ"النهار" من حطام، وزهير مراد الذي شهد الكابوس في مبناه المقابل لمرفأ بيروت.
4 آب، الساعة 6...
عاش زهير مراد الكابوس، حين عرف بمكان وقوع الانفجار عند المرفأ بالقرب من مبنى مشغله الذي كان قد غادره. تلاشت أفكاره وعاش لحظات "بشعة ومؤلمة"، كما وصفها.
كيف يذهب إلى متجره ليَطمَئِنّ على موظفيه، وهو لم يعد يعرف طرقات بيروت وأزقتها الغارقة في الحطام. يقول مراد: "حتى اليوم، أعجز عن وصف الشعور الذي انتابني خلال تجوالي في شوارع بيروت المدمّرة، مشياً على الأقدام من مار مخايل حتى الجمّيزة، رأيت ما كان بمثابة "فيلم رعب"، الجثث، الجرحى، الصراخ والعويل، العتمة، الردم، التكسير. لم أميّز طرقات بيروت، ولا مبانيها، سيبقى هذا المشهد في ذاكرتي إلى الأبد. توجّهت نحو المبنى، كنت أريد فقط أن أعلم من بقي في المكتب ومن تأذّى، أردت أن أعلم من كان من الموظفين لحظة وقوع الفاجعة، تملّكني شعور الخوف والضياع، كانت صدمةً للجميع".
لكن بعد كلّ هذا الدمار، كم من القوّة جمع زهير مراد لمواجهة المستقبل، والانطلاق مجدّداً من الصفر؟ يجيب مراد في هذا السياق أنّه قرّر إعادة ترميم المبنى بنفسه، بغية توجيه رسالة الى الّبنانيين مفادها أن "التوقّف ليس حلّاً بسبب الانفجار، والحياة يجب أن تستمرّ"، مضيفاً: "إن لم يسهم الجميع في إعادة ترميم بلده، فلمن سيبقى؟ كلّنا معرّضون للمصائب، لكن مهما كبُرت يجب المقاومة والمواجهة. اجتاز لبنان العديد من المحن والحروب، أتمنّى حقاً أن تكون هذه نهاية المصائب والأحداث، يجب أن نستمرّ من أجل الأجيال والشباب، وهذا بلد عمره آلاف السنين".
ما بعد 4 آب: رسالة قوّة واستمراريّة
في الفترة التي تلت 4 آب عاش مراد ككثيرين حالاً من الضياع، ورغم ذلك بدأ في اليوم التالي البحث عن مكان لاستئجاره ليستأنف عمله، كلّ ذلك بهدف الاستمراريّة وتأمين عمل للموظفين الذين يعيلون عائلاتهم.
هل فكّرت في الهجرة؟ "سأكون صادقاً، في الفترة الأولى بعد الانفجار، كنت يائساً طامحاً للهجرة، لكن بعد التفكير والتساؤلات التي لاحت في ذهني فكّرت مليّاً، وقرّرنا البقاء في بلدنا، مرّ على لبنان الكثير من الفواجع، الحروب والمصائب، لكن نحن اللبنانيين لم ولن نترك بلدنا، المواطن اللبناني من أول تاريخه حتى اليوم جبّار، يعشق الحياة، إيجابي، ومناضل، زرع أجدادنا هذا الحسّ فينا. هذا الجيل اليوم يُجبر على المغادرة لتأمين حياة أفضل، حتى لو بمعاشٍ متدنٍّ، لكن أنادي الشباب بأن يبقوا لنبني لبنان من جديد، هذا بلدنا ولن يتمكّن أحد من تهجيرنا، إذا غادر الشباب فمن سيبقى في البلد؟".
بالرغم من تعسّر الحالة وتفاقم الأزمات كافةً، يرى مراد أنّ الجهد الذي يبذله الفرد للعيش في هذا البلد، ويضطرّ إلى تأمين أدنى متطلبات الحياة مع تملّص الدولة من مسؤوليتها، واقع حزين، "أينما كنت في العالم، يستغرب الجميع كيف نعيش من دون كهرباء ولا مياه، لكنني أعتبر نفسي إنساناً متفائلاً في الحياة، ودائماً أرى بصيص أمل".
خدم مراد قناعته مراراً من خلال رفع اسم لبنان عالمياً حين ألبس أزياءه لأهم النجمات، "كانت رسالة إيجابية للبنان، أفتخر بأن أكون من بلد صغير في الشرق الأوسط وأصل الى العالمية".
"لنبلسم جرح المباني وأهراءات بيروت"
تطلّ نوافذ مبنى زهير مراد على الأهراءات والمرفأ، وفي كلّ مرّة يلقي نظرة من النافذة المرّممة يستذكر الانفجار والضحايا، والمأساة التي لا تزال آثارها متجذرة في الأرض. من أجل المضيّ إلى الأمام، يطالب مراد بتحويل الأهراءات إلى مكان تشعّ منه الحياة، حديقة عامة على سبيل المثال... ففكرة ردمها، ليست لمحو الماضي بل من أجل التركيز على المستقبل ولتخفيف لوعة القلب، مع التشديد على عدم نسيان الضحايا، والمحاربة المستمرّة من أجل تحقيق العدالة.
الحملة
من أجل إعادة الأمل وإعادة الحياة لبيروت، أطلقت "النهار" وشركة IMPACT BBDO بالتعاون مع المصمم العالمي زهير مراد حملة REDRESS LEBANON، وتشرح تويني أنّ هذه الحملة هي لعودة لبنان الذي يشبهنا، لبنان الحيّ ولبنان الذي يسطع اسمه عالمياً، وهي دعوة لإعادة بناء الإنسان على الصعيد الداخلي بشكل أساسي.
ويقول مراد عن الحملة: "هي رسالة أمل للناس بأن يعملوا للبقاء في لبنان، ومن أجل إعادة إعمار لبنان وإلباسه ثوباً من أمل، عبر تصميم فستان استوحيناه من قماش الشبك الذي يغطي مباني بيروت الجريحة... هذه القماشة (الشبك) رمز لدمار بيروت، بالرغم من بشاعتها نحاول استخراج فرح وأمل منها. وأردت بهذا الثوب أيضاًأن أخبّئ قلب هذه المدينة، لأنّ جرحها عميق "بطوّل ليشفى". الرسالة من هذه المبادرة هي رسالة للشعب اللبناني الذي أناشده بعدم الاستسلام. الثوب يعكس أملاً يمثّل أناقة لبنان وسحره، مثلما تعوّدنا وكما أخبرنا أهلنا عن هذا البلد العظيم".
وأضاف: "أقول للناس الذين تضرّروا جسدياً وفكرياً: أبقوا نضالكم لكشف الحقيقة، لكن في الوقت نفسه انظروا إلى الأمام. ولا ننسى الضحايا وأهاليهم، وأوجّه رسالة للأهالي والجرحى بأن يثابروا على العدالة وأن ينظروا الى الأمام...". توافقه نايلة تويني التي تنتظر العدالة منذ 17 عاماً، ولا تنسى عدالة السماء، وتثابر على النظر الى الأمام.
وتشمل الحملة إطلاق مبادرة بيع 10425 NFT من تصميم الثوب يعود ريعها لدعم الصحة النفسية ومساعدة المتضررين وأهالي الضحايا عبر تقديم ريع البيع الى جمعية "إدراك".
يحاول مراد من خلال مهنته وابتكاراته أن يساعد الشعب اللبناني، لكنّ طريقه أيضاً شاقّة بعد الأزمات المتتالية ومنها أزمة حجز الأموال في المصارف. لذا حاول النهوض من نقطة الصفر تحمّلاً للمسؤولية، فعمله باب رزق الموظفين وعائلاتهم، "الوضع صعب، لا أعلم كيف لا يلاحظ الحكّام المآسي التي نعيشها".
بعد الانفجار، أطلق زهير مراد قميصاً بشعار “we will rise” حاصداً اهتماماً من نجوم هوليوود والعالم بأكمله، وأعطي حينذاك المبلغ بأكمله لمؤسّسة خيرية بهدف إعادة إعمار مبانٍ في منطقة الكرنتينا ومار مخايل، "تداعى الجميع لهذه القضيّة الإنسانية، وبسبب علاقاتي الوطيدة مع العديد من النجمات، انتشرت الحملة على نطاق واسع".
طموح غير محدود
يروي المصمّم اللبنانيّ رحلته في عالم الأزياء، وانطلاقته من لبنان ليُوصل اسم هذا البلد إلى العالمية، "كان هناك العديد من الأشخاص الذين لم يسمعوا ببلد اسمه لبنان. الأزياء تعكس حضارة البلد، مدى ثقافته وتمدّنه، لبنان الذي عرضته من خلال أزياء مشاهير هوليوود وزبائني المشهورين، كان بمثابة رسالة. أفتخر بأنّني تمكنت من أن أظهر هويّة هذا البلد الصغير الحضاري".
طموح مراد في عالم الأزياء لا ينتهي، وهو كان يعمل قبل جائحة كورونا على عطر يحمل اسم "زهير مراد"، بالإضافة إلى تحضير مجموعة Prêt-à-Porter، وأكسسوارات صمّمها. ورغم مرور السنوات والنجومية، لا يزال المصمّم العالمي يهاب الموقف في الكواليس قبل أيّ عرض أزياء ويعتبره كأوّل مرّة، مشبّهاً الشعور بطالب مدرسة لديه العديد من الامتحانات.
كثيرة هي صداقاته مع النجوم العالميين، ومنهم جينيفر لوبيز، "أحبّ الأشخاص العفويين والطبيعيين، حين تعرّفت إليها، تحَمّسَت وأخبرتني كم هي تحبّ عملي، فأصبح الشعور متبادلاً، أراها مثالاً للمرأة الناجحة، الجميلة، الفنانة، الأمّ، الصديقة".
زهير مراد مثال على اللبناني الذي لا تهزمه الأزمات ويؤمن بالطاقات والاحتمالات. يحتاج لبنان الى مواهب أبنائه، وألّا يتركوه حتى حين يهاجرون!