يعيش مخيّم شاتيلا على طرف العاصمة بيروت ألف حكاية ومأساة. لكلّ لاجئ مشرّد من أرضه توقٌ للعودة إلى دياره، لكنّه في الانتظار يقبع وسط المأساة والمصيبة، التي يزيدها مرارة تلك المفاتيح التي تذكّرهم بالعودة المأمولة إلى مسقط الرأس.
من الحكايات في شاتيلا آثار وسمت الأرواح قبل الوجوه، تُحاكي حرباً فتكت وهجّرت، وشوهّت طفولة بريئة. هناك، زمزم شلبي تسكن، لكنّها تسكن عقول كثيرين ممّن عرفوا حكايتها؛ فتذكّروا هذا الاسم جيّداً! لأن حكايتها ليست اعتيادية، ودموعها خير دليل على ذلك.
عند أطراف بيروت الكبرى كوارث إنسانيّة لا تُحصى ولا تُعدّ، حتّى أنّها لا تُذكر في نشرات الأخبار والصحف اليوميّة. وما بين آفة وأخرى، يقع الأطفال ضحيّة القوانين "القمعيّة" و"العنصريّة"، ليسقط مستقبلهم قبل أن يبدأ في بلد لا حقّ لهم فيه بالطبابة أو بالشعور بالوجع، لأن ذلك مكلف، ومحرّم عليهم. في صلب هذه المعاناة نقصد زمزم، ابنة الـ١١ عاماً، التي شوّهتها الحرب بعدما قصفت بيتها طائرة مسيّرة، لتهبّ النيران فيها، وهي التي كانت تخشى الاقتراب منها حتّى.
أدراج متعرّجة محطّمة، رائحة نتنة تنبعث من حيّ شعبيّ رُفعت فيه أعلام حزبيّة وعربيّة مختلفة، إلّا أعلام الإنسانيّة. هناك تعيش زمزم شلبي وعائلتها، بعدما نزحوا من سوريا نحو بيروت بحثاً عن الأمان، أو على الأقلّ هذا ما كانوا يأملون به. من مدخل المخيّم حتّى بيت الفتاة، انتصبت أعين المارة تحديقاً بالكاميرا وبنا، "من هؤلاء؟ ماذا يفعلون عند هذه الفتاة البشعة؟"، عبارات وقعت على مسامعنا كالقنبلة التي أصابت بيت الطفلة في مسقط رأسها، فكان لها تأثير أكبر وأخطر من القذائف والطيران الحربيّ عليها.
"يا هلا، تفضّلوا"، بالترحيب والابتسامة استقبلنا أهل زمزم، الذين يعيشون في مكان غير مؤهّل للسكن أساساً، إذ إنّه عرضة للانهيار والسقوط في أيّ لحظة، ولكنه "يسترهم" من نظرات الناس وألسنتهم السامّة التي تنتقد في كلّ فرصة طفلة لا ذنب لها بما حلّ بها سوى أنّها وُلدت في منطقة محاصرة تحت قبضة المتطرّفين، حيث اشتعلت بنيران الحرب وكأنّها المسؤولة عمّا حصل لبلدها وأقرانها.
لحظات من السكون والصّمت خيّمت في أرجاء المكان، حين كانت الصغيرة تسترق نظرات جانبيّة تبحث فيها عن خيط أمل واحد يمكنه إنقاذها من الجحيم الذي تعيشه. "كانت الطيّارة ما تبعد عنا شي بس تضرب، وأنا كنت خاف كتير، وقول أيمت بدّي عيش بسلام؟"، تقول زمزم من دون تردّد أو سابق تحضير كلمات "غير مصفوفة"، تروي معاناة الحرب بأصدق طريقة.
وتُردف بهدوء وحذر: "نزحنا من سوريا بعدما احترقت، ووضع المستشفيات هناك لم يكن يسمح لهم بعلاجي، فازدادت حالتي سوءاً، وقضيت أياماً ولياليَ أنزف دماً، وأصرخ من وجعي. ولكن ما من علاج أو مسكّن، وها أنا اليوم نصف طفلة، إذ نصفي الآخر احترق وتفحّم ولا أقدر على استرجاعه".
"هالقد أنا بشعة؟"، تسألنا ابنة الـ١١ عاماً بصوت خافت ومتردّد، وكأنّها تتسوّل إجابة تُرضي براءتها، وهي تنظر إلى أعيننا لتراقب نظراتنا لها، وهي جالسة بخجل وقلّة حيلة. "حياتي هون بين أربع حيطان ما فيني إضهر ولا أعمل شي... ما عندي أصحاب ولا إلنا حدا... بيستحوا فيني وبيتنمّروا عليّي"، تصف زمزم باكية لـ"النهار" تفاصيل يوميّاتها المؤلمة التي تُثير غضبها وضيقها، فهي سجينة حيطان منسيّة ومهدّمة، تخشى الظهور في العلن خوفاً من ردّة فعل من حولها والجيران، الذين يتسابقون على رجمها، ويُشعلون النار في روحها هذه المرّة عوضاً عن جسدها النحيل.
تشقّقات وندوب تركت بصماتها على جسد الطفلة التي تحلم بأن "تكبر وتدرس الطب، وتحديداً طبّ التجميل، لكي تُساعد من شوّهتهم الحرب وغيّرت نظرتهم إلى أنفسهم". أحلام أصعب من أن تُصدّق أنّها لطفلة ذات ١١ عاماً فقط، فهذه الأفكار التي تجد صعوبة في فهمها وسماعها، التي تتفوّه بها زمزم بصعوبة بسبب ثقل شفتها المحروقة، وتلعثمها بالكلام، كفيلة بهزّ ضمائر الحكام، إن وجدت، فكيف لطفلة أن تختبر كلّ تلك الآلام بصمت وتسليم كلّي؟
يخبرنا الوالد تحت هول الحادثة مذهولاً، فابنته الصغيرة أصيبت بصدمة عصبية، وبقيت لفترة طويلة ترفض الخروج من المنزل أو الاختلاط بالمحيطين بها، فيما يجلس الأب يتأمل الصور المخزّنة بهاتفه، ويستعيد صورة ابنته "المدلّلة" قبل أن يشوّهها "قدرها الأسود".
يقول لـ"النهار" بحرقة وأسى: "بنتي حلوة وذكيّة وشجاعة، حتّى أحلى منّي أنا وأمّها، بس حظّها بشع كتير". يصرّ الأب الذي يعاني من أمراض قلبية على مشاهدة صور صغيرته غير مصدّق كيف نالت منها النيران لتبدو بلا ملامح، ثمّ لتفقد نفسها بعدما راحت تنظر إلى المرآة المكسورة فوق فراشها.
أحلام زمزم بسيطة مثل حالتها الاجتماعية، وطفولية كالأيام التي سُرقت منها، إذ تأمل أن تذهب إلى المدرسة كغيرها من الأطفال، أن تركض، أن ترى أصدقاءها، أن تخرج من المنزل بلا خوف أو خجل، أن تعيش كسائر الأطفال حياة هادئة وصحيّة، فهذا أقلّ ما يمكن أن يوفرّ لها كطفلة أولاً، وكإنسانة ثانياً.
"لن أردّ على المنتقدين، ولن أدعهم يحدّدون مسار حياتي، سأرسم أنا خريطتي". بهذه الكلمات، وبعد يوم تصوير طويل ودّعتنا زمزم، محملةً إيّانا مسؤولية كبيرة... مسؤولية أن نحكي قصتها وننشرها على أوسع نطاف عسى أحد الأطباء تصعب عليه حالتها ويساعدها في ترميم بشرتها لتنعم بالحياة التي تستحقها...