"ذنبي أنّي أنجبت طفلاً في هذا البلد". بتنهيدة كبيرة يصف فراس، وهو أب لبناني لطفلة وحيدة أجبرته الظروف على إرسالها إلى سوريا، حيث تتواجد أمّها، بسبب استحالة تأمين أدنى الظروف المعيشيّة لها. لم تتعلم ابنة فراس(6 سنوات) القراءة والكتابة بعد، وهي لا تزال خارج مقاعد الدراسة. أرخت الأزمة الاقتصادية بثقلها على كاهل اللبنانيين، إلا أنّ وقعها على الأطفال كان أقسى.
يعمل فراس ناطوراً متنقلاً من منطقة إلى أخرى، بعدما ترك عمله في الزراعة بسبب تحليق أسعار الشتول والمبيدات. انفصل عن زوجته بعد 5 سنوات من زواجٍ طغت عليه المشاكل، ولعب الفقر الدور الأساسي في تفاقمها. كل ذلك كان ضمن مجموعة من الأزمات التي أثرت على اللبنانيين بشكل عام، والأسر بشكل خاص، منذ أواخر العام 2019. عاشت الطفلة ضياعاً كبيراً بسبب تنقّلها من منزل إلى آخر بصورة مستمرة. ما زاد الوضع تعقيداً هو خلاف فراس مع أهله وعدم تقديمهم أي مساعدة في تربية الطفلة.
اللعب والترفيه كحقين أساسين لتنشئة الطفل، يغيبان عن أطفال لبنان الذين باتوا محرومين من الصحة والرعایة والحمایة والتعلیم. "84 في المئة من الأسر لا تملك ما يكفي من المال لتغطية ضروريات الحياة"، بحسب دراسة أجرتها منظمة اليونسيف تحت عنوان "الطفولة المحرومة: معاناة الأطفال في لبنان المنهك من ثقل الأزمات".
يدرك الأطفال تماماً تأثير هذه الأزمة على حياتهم وتطلّعاتهم. "في الآونة الأخيرة، لم تعد ابنتي تطلب منّي الشوكولا المحبّب إلى قلبها، وكأنّها تعلَم أنّني غير قادر على تأمينه"، يقول فراس. أظھر تقییم الیونیسف أنّ أكثر من ثلثي مقدمي الرعاية شعروا أن حالة أطفالھم النفسیة ازدادت سوءاً خلال العام الماضي. يشعر الأطفال بالإحباط، ومنهم من فقد ثقته بالوالدين اللّذين لم يعودا قادرين على تأمين احتیاجاتھم الأساسية، بحسب الدراسة.
أرغمت الظروف محمد على تسرّب أطفاله الثلاثة من المدرسة لينتقلوا إلى سوق العمل في محل ميكانيك بهدف "تعلّم مصلحة ويطلّعوا مصاريفهم". تتراوح أعمار أطفاله بين العشر والخمسة عشر سنة، وكلهم يتعاونون على تأمين معيشة العائلة. أكّدت اليونيسف في دراستها أنّ 38 في المئة من العائلات قلّصت نفقات التعليم، ولهذا تأثير سلبي على علاقة الأطفال بالوالدين بسبب "حدوث انعكاس في الأدوار". إذ إنّ الأطفال عملوا ليكونوا مصدر الدخل الوحيد في الكثير من العائلات، وهو ما قد يتسبب بهذه المشاحنات.
أظهرت الدراسة أيضاً أنّ 23 في المئة من الأطفال ذهبوا إلى فراشهم وهم جائعون خلال فترة قصيرة سبقت التقييم. لم تسلم النفقات الصحية من آثار الأزمة، حيث خفّضت 60 في المئة من العائلات الإنفاق على العلاج الصحي، مقارنة بنسبة 42 في المئة في نيسان الماضي.
تشير هدى قرى، مديرة جمعية "دار الأمل" المهتمة بحقوق الأطفال والنساء، إلى أنّ هذه الدراسة سريعة، ولو كانت أوسع وأشمل، لكانت الأرقام أعلى من تلك المنشورة. تحمّل قرى الوزارات المعنيّة دوراً كبيراً عن التقصير بسبب الإقفالات وإضرابات الموظفين لعدم حصولهم على رواتبهم. "لولا وجود جمعيات دولية وأهلية لكانت الكارثة أكبر بكثير، إلا أنّ هذه المساعدات جزئية ولا تستطيع تغطية كافّة الاحتياجات".
أمّا في ما يتعلّق بأطفال الفئات المهمّشة، أي أولئك القاطنين في المخيمات السورية والفلسطينية والمناطق الأكثر فقراً، فهم يعيشون حالات من الحرمان والخوف والتشرّد. تردف قرى أنّ هناك "جهات تقوم باستغلالهم ليصبحوا وسيلة سهلة لمافيات ترويج المخدرات والسرقة والدعارة". وختمت رئيسة "دار الأمل" بالتأكيد على أنّ الفتيات هنّ العنصر الأضعف في الأسر الفقيرة. إذ إنهنّ أكثر عرضة للتأثّر بالأزمات، خصوصاً من حيث إجبار بعضهن على ترك التعليم أو تزويجهن في سنٍّ مبكرة.
"70 في المئة من العائلات تسدّد حالياً ثمن الطعام من خلال مراكمة الفواتير المدفوعة أو عبر الاقتراض المباشر"، هي نتيجة أخرى توصّلت إليها الدراسة. عاش اللبنانيون على عبارة "بالحرب عشنا أصعب أيام"، على لسان أهاليهم. اليوم، تطاول كل هذه الأزمات أطفال لبنان، وهو مؤشر مقلق يُظهر أنّ ما يعيشه أطفال اليوم لا يقلّ وطأة عن مستقبلهم.