النهار

كانت قدوة
السيدة شادية تويني.
A+   A-
نايف معلوف


عرفتُ شادية في جامعة البلمند. كانت هذه الجامعة تخطو خطواتها الأولى نحو المستقبل. وكان كبيران اثنان يسهران عليها، أغناطيوس الرابع وغسّان تويني.

البطريرك أغناطيوس عاش متقشّفاً، وانتقل من هذه الدنيا، لا يملك إلّا ما يرتديه. كان غنيّاً بمحبّة الناس، وثقتهم به. عندما تكون الثقة، يصبح كل شيء ممكناً. وعندما تُفقد الثقة، يُفقد كلّ شيء. باسم هذه الثقة، كان البطريرك يدعو المتموّلين، مسلمين ومسيحيين، إلى المساهمة في بناء الجامعة. وكان هؤلاء يلبّون دون تردّد. هكذا صار للبلمند، أكثر من خمسة عشر بناءً حديثاً، وعلى أجمل ما يكون البناء.

أما غسّان تويني، فقد أعطى خمس سنوات من عمره لهذه الجامعة، رئيساً لها أو نائباً لرئيس مجلس الأمناء. أعطاها في هذه السنوات أكثر ممّا أعطى "النهار". لم يقبل أن يتقاضى تعويضاً عن عمله. كله يكون للجامعة أو لطلّابٍ معوزين فيها.

على منواله نسج آخرون، خمس سنواتٍ أيضاً.

إنها قاعدة. المرء يقتدي بمن يحبّ.

في هذا الجوّ من الصفاء والعطاء والقداسة، وجدت شادية ضالّتها. كانت في ما مضى تتردّد على الدير الأثريّ للصلاة والتأمّل، صارت مع تلك المنارة المشعّة التي تشاد على التلّة الخضراء، تواظب على الحضور كلّ يوم، مزهوّةً بما ترى، وبمن ترى، من أصحاب الثقافة الواسعة ورجاحة الرأي.

كان البطريرك أغناطيوس يقدّر فيها تواضعها، وإيمانها، وتشبّثها بالقيم، ومحبّتها للجميع.
وهي كانت أينما حلّت، تلفت النظر ببساطتها، وعفويّتها، ودماثة خلقها، وبتلك الابتسامة الصادقة التي لا تفارق محيّاها.

كنتُ أحياناً كثيرة أرافق غسّان تويني في ذهابه من بيروت إلى البلمند وفي عودته منها. وكان دائماً حديثنا عن الجامعة، والآمال المعقودة عليها، وكثيراً ما كان يخيّم علينا في الطريق، صمتٌ ثقيل، تقطعها أحياناً تمتماتٌ يتلفّظ بها غسّان ولا أفهمها، وأستشفّ من خلالها حزناً عميقاً يعيشه ويحاول أن يخفيه، بعدما فقد صغيرته نايلة، وحبيبه مكرم، وزوجته ناديا، الفراشة الجميلة كما وصفها نزار قباني، وصاحبة القصيدة الخالدة عن دير البلمند ورهبان الدير.

لم يكن يفوت شادية ما حلّ بغسّان من فواجع، فصارت عندما يبيت لياليه في الدير، تعدّ له في منزلها بطرابلس سهراتٍ أدبيّة، تدعو إليها شعراء وأدباء، من المدينة وممّا حولها، يتبارون في قول الشعر أمامه، فيفاجئهم بمثله ويزيد.

كانت هذه السهرات تعيد البسمة لوجه غسّان الذي أحبّ الحياة حتّى الثمالة، لكن الحياة قست عليه.

صار همّ شاديى في ما بعد أن تبقى له تلك البسمة، وكانت في خفر، وحرص على أن لا يلاحظ أنها تؤمّن له ما يحبّ. كما كانت في نبل وكبر، تقدّم له الخدمات، ولا تفارقه لحظةً في آخر أيّامه.

مرضت شادية. المرض الخبيث أصابها في ما بعد، فوقفت كبيرةً أمامه، تواجهه بجرأة وشجاعة وصمت، وبقيت في حياتها وفي غيابها، تلك السيدة الأصيلة، التي لم يتّسع قلبها إلا للمحبة والعطاء.

قرأت لسمير عطا الله أن غسّان تويني قال له في إحدى المناسبات: "لقد غيّرت هذه المرأة حياتي".

كانت قدوةً.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium