يقول الفنان الشهير بابلو بيكاسو "إنّ الفنّ يمسح عن الروح غُبار الحياة اليوميّ". يمرّ الزمان ويحمل معه فنّاً كان مرآةً للحقبات، فمن التكعيبيّة إلى الانطباعيّة، ومن فان غوخ إلى كاسبار فريدريش، لم يستغنِ الفنان عن ريشته، أو لوحته.
واليوم، مع تطوّر التكنولوجيا، تحوّل مجتمعنا إلى مكان ساد فيه التطوّر، وتغلغلت التكنولوجيا في أعماق الثقافة والفنّ.
غابت الريشة، وحلّ مكانها جهاز سيطر على العالم برمّته، وأصبح بوسع الفنان أن يجمع أدواته كلّها في مكان واحد، فلا داعي لأستوديو كبير، أو لألوان باهظة الثمن. إنه الكومبيوتر، وكلّ شيء أصبح بفضله متاحاً عبر شاشة تطلّ على العالم الافتراضي، الذي بدأ يحلّ شيئاً فشيئاً محلّ الواقع الذي نعيش فيه.
لكن هذا الاختراع يُفسح المجال لطرح العديد من الأسئلة: هل استُبدل الفن التقليدي؟ هل الرسم عبر جهازٍ يُعتبر موهبة؟ هل هو مربحٌ أكثر؟
ما هو الفنّ الرقمي؟
يعتبر الجميع أنّ الفنّ الرقمي فنٌ من نوع جديد، وتعود جذوره إلى حقبة الـستينيات مع فنّانين مثل فريدير نايك، آلان كبرون، ومجموعة "التجارب في الفنّ والتكنولوجيا"، الذين دأبوا على اكتشاف العلاقة بين الإنسان والآلة في المجال الفنيّ.
لكنّ هذا الفنّ لم يبصر النور إلا في الثمانينيّات مع الفنان هارالد كوهين ومجموعة من المهندسين في برنامج يدعى "آرون"، قبل أن يتمكّن هذا الاختراع مع الوقت من تقليد أشكال من الطبيعة.
في التسعينيّات تمكّنوا من تطبيق الألوان على الرسومات، ممّا أحدث نهضة رقميّة في المجال الفني.
يُعّد الفنّ الرقميّ من الوسائل الجديدة، وشكلاً من الإبداع والاختراع، حيث التكنولوجيا الرقميّة جزء لا يتجزّأ من العمليّة الفنيّة.
إنّ هذه الوسيلة ليس بعيدة من الفنون الجميلة التقليديّة. يقدّم الفن الرقميّ وسائل وأساليب متعدّدة يُمكن للفنانين استخدامها للتعبير عن أنفسهم، من التصوير الرقميّ ورسومات الكمبيوتر إلى فنّ البكسل، الخيارات لا تنتهي!
لكن هل يُستبدل الفنّ الرقمي بالفنّ التقليديّ؟
"الفنّ نافذة يُنظر عبرها إلى عقل الفنان"
تعتبر الفنانة الرقميّة إيمي شينيارا أنّ الطلب على العمل الرقميّ ازداد، لكن ذلك لن يقضي على الفنّ أو الوسائط التقليديّة.
تقول في حديث لـ"النهار": "يوجد ما أسمّيه بالـ"الإجهاد الرقميّ"؛ فحين نقضي الكثير من الوقت على الشاشات نضجر، ولا أجد أجمل من ابتكار شيء ملموس. وفي الحقيقة أنّ النّاس ما زالوا يذهبون إلى المتاحف، ويشترون نسخًا من أعمال فنيّة لعرضها في منازلهم، دلالة على أنّه سيكون هناك دائمًا اهتمام بالفن والوسائل غير الرقميّة".
لجأت شينيارا إلى الفنّ الرقميّ حين بدأ ينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وترى أنّه بمجرد توافر أجهزة الكمبيوتر والإنترنت في منازلنا، تعرّف الجميع على الفنّ الرقمي، وتقول: "من المؤكّد أن السوق والاتجاهات ووسائل التواصل الاجتماعي تزيد الطلب وفق كميّة ونوعيّة المحتوى الذي يتمّ ابتكاره. وفي معظم الأحيان، اللجوء إلى هذه الوسائل يكون من أجل مصالح ماديّة واستقطاب شريحة واسعة من الناس، الذين يمضون أوقاتهم على الإنترنت".
نظرة إلى فنّ إيمي شينيارا:
معظم الفنانين، الذين استهلّوا مسيرتهم الرقميّة، كانوا فنّانين تقليديين. من هؤلاء المبدعين الفنّان الرقمي إيليو طربيه الذي روى رحلته لـ"النهار".
وجد طربيه الفنّ الرقميّ بالصدفة، فهو فنان تقليدي قضى معظم حياته المهنيّة في رسم صور "البورتريهات"، ولم يكن من رواد وسائل التواصل الاجتماعيّ لعرض فنّه. لكن كلّ شيء تغيّر بعد الثورة، وقرّر حينها أن يكون جزءًا من الحركة الفنيّة الرقميّة التي بدأت تزدهر في لبنان.
يرى طربيه أنّ الجميع دخل في موجة الفن الرقمي لأنّ عرض الفنّ على منصة رقميّة يحقق إقبالاً من الناس. ويضيف: "هي منصة حيث يكون فنّنا نوافذ يُنظر فيها إلى عقولنا. أعتقد أيضاً أنّه في الأوقات الصعبة يكون الفن تماماً كبصيص أمل بالنسبة إلى كثيرين؛ يكون مصدرًا للتفاؤل والراحة، أو صرخة أو حتى وسيلة للعلاج والتواصل من منظور الفنان".
نظرة إلى فنّ إيليو طربيه:
فنانة رقميّة أخرى رأت في هذه المهنة فرصة ذهبيّة للتعبير عن شخصيتّها واستخدام أسلوبها الخاص وعرض فنّها الفريد. باميلا منصور المتخصّصة في مجال الغرافيكس روت لـ"النهار" سبب اختيار هذا النوع من الفنّ كمهنة يوميّة. تقول: "في عملي السابق كنت أفتقد حسّ الإبداع. كنت أنفّذ الغرافيكس حسب طلبات الزبائن، لم أكن أضع لمسة خاصّة، علماً بأنني طوّرت ونمّيت مهارتي الفنيّة، فالفرد يخلق فناناً؛ إن لم تكن لديك الرؤية، فجميع الوسائل لن تساعدك، سواء أكانت رقميّة أم تقليديّة".
وأضافت: "ما شجّعني هو انتشار هذا الفنّ على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً "إنستغرام"؛ فذلك دفعني وحمّسني لعرض فنّي على هذه المنصّات، واستهللت مهنتي بالفنّ الرقمي".
نظرة إلى فنّ باميلا منصور:
وبات اتجاه الفنّ الرقميّ اليوم يصبّ لصالح NFTs، أي الرموز غير القابلة للاستبدال، فهي من أصول رقميّة، وكلّ منها يحتفظ بقيمة مختلفة لا يمكن استبدالها بأصول أخرى.
من أوائل الفنانين الذين دخلوا إلى عالم الـNFTs في لبنان، الفنان رالف جينجر؛ وقد مرّ بمراحل فنّية عدة: التقليدي، الرقميّ والآن الرموز غير القابلة للاستبدال.
وفي حديث إلى "النهار"، شرح رالف كيف فتح عالم الـNFTs أبواباً أوسع من الفنّ الرقمي. ويقول: "اتّجهت من الفنّ التقليدي إلى الفنّ الرقمي، وكان ما يميّز الرقميّ هو معيار الوقت. فإذا كنت أريد أن أبتكر قطعة فنيّة، فإنها تستغرق بوساطة الأدوات الرقميّة بضعة أيام، لكنها تتطلّب أسابيع بالوسائل التقليديّة. بُعيدها، انتقلت من الفنّ الرقميّ إلى الـNFTs لأنني وجدت أنّ الفنّ الرقميّ يعتمد بشكل أساسيّ على طلبات واقتراحات الزبائن، ناهيك بأنّ المعيشة والراتب عائق أمام الاستمراريّة، مشيراً إلى أنّ "كبسة الإعجاب تعني فقط أنّهم أحبّوا عملي؛ ذلك لا يعني أنّهم اشتروا فنّي. لكن عبر عالم الـNFTs بإمكاني أن أصل إلى مستوى عالمي لا الاقتصار على المستوى المحلّي، غير أنّ الربح المادي يسمح لي بأنّ أعيش وأنّ أؤمن مستقبلاً".
وذكر رالف أفضلية الربح الإضافي الذي يستفيد منه الفنان، ففي كلّ مرّةٍ يُعاد فيه بيع القطعة الفنية يحصل الفنان على مبلغ إضافي معروف بالـ"Royalty fees"، بالإضافة إلى حقوق النشر التي يحتفظ بها الفنان.
نظرة إلى فنّ رالف جينجر:
بالتالي، من الممكن أن تُصبح الـNFTs مستقبل الفنّ الرقميّ. ولكن ماذا سيظهر في المستقبل من أنواع الفنّ؟ ما هي الوسائل الإبداعيّة التي ستطوّرها التكنولوجيا؟
وتبقى هذه الأسئلة رهناً بالوقت.