في مجتمع ينظر إلى متعاطي المخدّرات بنفس الطريقة التي يُنظَر بها إلى القتلى والمجرمين، قد تكون الوصمة الاجتماعية أقسى من الموادّ السامّة المخدّرة التي تفتك بالأجساد. مقلقة الدراسات التي تُظهر أنّه في بلد يعيش أكثر من نصف سكّانه تحت خط الفقر، نلاحظ ارتفاعاً في أعداد مدمني المخدّرات، ولا سيّما فئة الشباب. تتعدّد الأسباب التي قد تدفع شباباً بعمر الرّبيع إلى هذا المسار، فالأوضاع الاقتصادية الراهنة وكل ما تلاها من أزمات ترخي بثقلها عليهم.
ربّما لن يكون ذلك مبرّراً واضحاً للتوجّه نحو التعاطي، لكن من المؤكّد أنّ هناك تفشّياً مجتمعياً "يدعو للهلع" أكثر من كورونا ومختلف الأمراض الصحيّة. وفي السياق، تورد احصاءات مؤسسة "جاد" لمكافحة المخدرات عن زيادة نسبة التعاطي 400 % في الآونة الأخيرة.
ومنذ أواخر القرن الماضي، نشأت العديد من الجمعيّات المعنيّة بمعالجة مدمني المخدّرات ونشر التوعية. لكنّ ذلك لم يغطِّ عجز الدولة عن متابعة الموضوع ومعالجة أسبابه وتوقيف مروّجي المخدّرات. هذا عدا عن الاتّهامات التي تطال الجهات الرسميّة بتغطية أكبر العصابات المتورّطة في تجارة الممنوعات.
"بدأت بسيجارة ليلة رأس السنة وتحوّلت إلى روتين يوميّ"
لمى (اسم مستعار)، طالبة جامعيّة لبنانية تبلغ من العمر تسع عشرة سنة، تعاطت حشيشة الكيف التي لا يصنفها كثيرون كمخدر لأكثر من سنة بعدما أحبّت تجربتها برفقة حبيبها سامر (اسم مستعار). لا تعتبر لمى أنّ سامر دفعها نحو هذا الموضوع، بل كانت تراودها حشريّة التجربة قبل أن تتعرّف إليه. لا تنسى لمى "سيجارتها" الأولى والخوف الذي كانت تشعر به.
وعن تأثير الموضوع على حياتها تقول: "لا يمكنني القول إن تعاطي الحشيشة لم يؤثر على حياتي، إلا أن هذا التأثير كان محدوداً نظراً لإصراري على إبقاء الموضوع تحت السيطرة. كنت أذهب إلى الجامعة والعمل بنحو طبيعي ولم ألفت انتباه أهلي ومحيطي أبداً". لكنّ تجربة سامر وصلت إلى حدّ تعاطيه حبوب الهلوسة ومن ضمنها الكبتاغون، وإنفاق كل أمواله لشراء هذه المواد. وتسعى لمى اليوم لمساعدة سامر على الإقلاع التدريجي عن التعاطي.
الأرقام تدعو للقلق... وبشدّة
بحسب جمعيّة جاد، 400 في المئة هي نسبة ارتفاع عدد المدمنين بداية عام 2022. احتُسبت هذه النسبة بناءً على الازدياد الكبير في أعداد المدمنين في مختلف جمعيّات مكافحة المخدّرات. النقص الحادّ في الإحصاءات الرسميّة ما هو إلّا دليل على الخفّة في التعاطي مع الموضوع. الأرقام الصّادرة عن قوى الأمن الداخلي تشير إلى ضرورة التنبّه لارتفاع معدّلات الترويج وتعاطي المخدّرات في بلدٍ يعيش ضائقة اقتصادية صنّفها البنك الدّولي ضمن أقسى الأزمات الاقتصاديّة. فبحسب أرقام عام 2021 والنصف الأوّل من 2022، ضُبِط أكثر من 46 مليون حبّة كبتاغون وأكثر من 13 طنّاً من الحشيشة في لبنان. وتمّ توقيف أكثر من 2500 شخص في الفترة نفسها.
من جهتها تشير تقارير صادرة نهاية 2021 عن تجمّع "أم النور" المعنيّ بتأهيل متعاطي المخدّرات منذ عام 1989، إلى أنّ الفئة العمريّة بين (28-24 سنة) تشكّل النسبة الأكبر التي تلجأ إلى العلاج في التجمّع. من حيث المستوى التعليمي، يشكّل الحائزون شهادات جامعيّة النسبة الكبرى بأكثر من 33 في المئة بالمقارنة مع الفئات ذات مستوى تعليمي أقلّ. ما يزيد الطين بلّة، أنّ 35 في المئة من الخاضعين للعلاج في "أمّ النور" هم من طبقة الفقراء ومن حيث الوضع الوظيفي 73 في المئة هم من العاطلين من العمل. قد تكون هذه الأرقام خير دليل على انخراط عدد كبير من المتعاطين بالترويج للمخدّرات.
جمعيّة جاد: "الجهات الرسميّة متواطئة في الكثير من الحالات"
يتناول جوزيف حوّاط رئيس جمعية جاد المعنيّة بمكافحة المخدرات منذ عام 1981، عمق الأزمة التي يغرق فيها لبنان من حيث تفشّي المخدرات رغم الأزمة الاقتصادية. بحسب معلوماته، لا إحصاءات رسميّة في لبنان عن نسب التعاطي منذ عام 2000.
ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يلجؤون الى الجمعيّة أربع مرّات في السنتين الماضيتين، ويعود ذلك إلى الأوضاع العامّة في البلد والانتشار المخيف للمخدّرات في المناطق كافّة. يقوم التجّار بضمّ المتعاطين إلى التجارة، يقابله تقديم المخدّرات مجّاناً لهم، ما يزيد من أعداد المروّجين. إلى جانب الذكور، تُشغّل الفتيات المدمنات بالدّعارة حيث وصلت نسبة الإناث في مركز "جاد" إلى أكثر من 22 في المئة. وهذا الأمر "أكثر من مقلق" بحسب حوّاط.
لا يرى أنّ الجهات الرسميّة مقصّرة فقط، بل متورّطة في الكثير من الأحيان. ويضيف: "ضبّاط وقضاة برزت أسماؤهم ضمن المتورّطين، ولم نعرف أيّة تطوّرات جديدة بملف الرئيس السابق لمكتب مكافحة المخدّرات المتّهم بسرقة الكوكايين من مكتب مكافحة المخدّرات. ماذا عن مسؤول أمني في البقاع كان ينقل المخدّرات إلى بيروت في الآليّة العسكريّة؟". ويذكر حوّاط أنّ ثلاثة ضبّاط وأحد عشر عسكريّاً ظهر تورّطهم بتسريب معلومات لـ"أبو سلّة" (أحد أكبر المروّجين) ولم تُعرف أيّ معلومات جديدة ما إن أوقفوا أم لا.
"نحن بلد ينتج الممنوعات بالملايين وما دام العرض كبيراً فسيكون حتماً الطلب بالمثل". يقلق حوّاط من ظاهرة التفلّت في إنشاء جمعيّات وهميّة معنيّة بمكافحة المخدّرات وينبّه من خطورتها. ويردف: "نتعرّض للتهديد واللوم، نسبة الشفاء أقلّ من 6 في المئة، الوضع محبط، ووزارة الصحّة توزّع علينا أدوية منتهية الصلاحيّة".
تجمّع أمّ النور: "يد واحدة لا تصفّق"
يصف مدير مركز المتابعة في تجمّع "أمّ النور" طوني نادر التجربة مع الوزارات والجهات الرسميّة بالجيّدة، فعلاقة التجمّع مع وزارتي الصحّة والشؤون الاجتماعيّة على مدى أكثر من ثلاثين سنة كانت مليئة بالتعاون. ويُعدّ التجمّع مستشفى من الدرجة الثانية وبالتالي التعاون مستمرّ مع وزارة الصحّة من حيث عدد الأسرّة التي تغطّيها الوزارة بالإضافة إلى الخدمات المشتركة بينهما.
يرى نادر أنّ تغيّراً كبيراً نشهده في شخصيّة المدمنين على مرّ السنوات، فالمدمنون اليوم أمام شعور بقلّة مسؤوليّة تجاه ما يقومون به. والأهل أمام قلق على الحاضر والمستقبل بسبب ما يمرّون به من صعوبات يوميّة. ويضيف: "الوضع الاقتصادي ونسب البطالة المخيفة تضع الشباب أمام يأس، ويُترجم هذا اليأس بالتوجّه نحو المخدّرات في الكثير من الحالات. نعمل على توفير بيئة صحيّة لتأقلم المدمنين مع الوضع الذين يمرّون به، وبالتالي ننسّق جهودنا مع جهودهم للوصول إلى حلول مشتركة تخرجهم من الإدمان".
ويتوجّه إلى الجهات الرسميّة بحتميّة تشديد المراقبة لوقف سوق تجارة المخدّرات المتفلّت، ويشدّد على دور الأهل الكبير في هذا الموضوع باعتبار أنّ الذين يحسنون التربية يكون أولادهم أقل عرضة بكثير مقارنةً مع الأهالي المهملين. "يد واحدة لا تصفّق، التعاون مطلوب منّا جميعاً لوقف تنامي هذه الآفة"، يختم نادر.
يلجأ الشباب للمخدّرات لعلّها تنسيهم قلقهم من المستقبل
لتعاطي المخدّرات دوافع وآثار نفسيّة لا يمكن التغاضي عنها. يربط الدكتور النفسي والمتخصّص بمعالجة الإدمان جمال حافظ الدوافع النفسيّة بتلك الحياتيّة التي يمرّ بها اللبنانيون، وتعمل جنباً إلى جنب لدفع المتعاطي لسلوك هذا الطريق: "العديد من الأشخاص يمرّون بصعوبات حياتيّة وكثر هم من يمرّون بصعوبات نفسيّة ولا يتّجهون للمخدّرات. وهذا أكبر دليل على أنّ الدوافع النفسيّة السلبيّة والدوافع الحياتيّة الضاغطة معاً يقودان المدمن للبدء بالتعاطي".
يبدأ مسار التعاطي بسجائر حشيشة الكيف، من خلال تشجيع المحيطين بالشخص على تجربتها للاندماج أكثر في أجواء السهرات والاحتفالات أو للتخفيف عن الضغوط النفسيّة والهموم. يصل الأمر بمتعاطي حشيشة الكيف إلى أن تصبح غير فعّالة في تخطّيه للهموم والضغوط، وهنا تبدأ مرحلة تعاطي المخدّرات الثقيلة كالكوكايين وغيره. بحسب حافظ، أكثر ما يقلق الشباب في هذه الأيّام هو المستقبل الذي تطغى عليه الضبابيّة.
وعن البيئة التي تحيط بالمتعاطي يعلّق حافظ: "يشعر المتعاطي ببيئة آمنة وحاضنة مع زملائه في التعاطي أو الترويج، وهنا يبدأ التشجيع على القيام بمختلف السلوكيّات السلبيّة كالعنف والسرقة وصولاً إلى القتل". العديد من الشباب يظنّون أنّ ما حُكيَ عن تشريع للحشيشة في لبنان يعطيهم دافعاً إضافيّاً لتجربتها وهذا ما هو إلّا دليل على الجهل. علاج المدمن يبدأ بخلق الأمل بإمكانيّة تخطّي الإدمان والعودة إلى الحياة الطبيعيّة، يختم حافظ.
ليس صدفة أن يكون لبنان على قمّة الدول الأكثر غضباً، وليس صدفة أن يكون أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خطّ الفقر والطبقة الحاكمة تتحاصص على كوكب آخر... كلّها عوامل تدفع بالشباب للغرق في إحباط يُترجم بسلوك مسار المخدّرات عند غياب التوجيه الأسري.
النقص الرهيب في الإحصاءات الرسميّة خير دليل على خفّة التعامل مع هذا الموضوع، يبقى الرهان على وعي الشباب والأهل والجمعيّات التي تواجه نموّ آفة المخدّرات باللحم الحيّ. لا شك أن المراهنة حصراً على دور الجهات الرسميّة ستودي بشبابنا إلى القعر.