يباغتنا الموسم الدراسي هذه السنة على عجل، بعكس تطوّرات الملف التربويّ التي تشهد سجالات عدّة وأخذاً وردّاً بين إدارات المدارس ووزارة التربية، لينتهي الأمر بهدنة "سلمية" بين الطرفين، أو على الأقلّ هذا ما صُرّح عنه علناً!... على أرض الواقع، لم تلتزم المدارس الخاصّة بقرارات الوزارة بل دخلت على خطّ السوق السوداء وراحت تُسعّر "كل يوم بيومه". للوهلة الأولى تظن أن هذا السيناريو ملفّق، ولكنّه للأسف حقيقيّ، حيث تخطّت التسعيرة المعقول بالـ"فريش" دولار، والحجّة الدائمة: "الوضع صعب على الأستاذ أيضاً"، مع العلم بأن بعض المدارس تتقاضى مبالغ هائلة بالعملة الخضراء ولكنها لا تدفع للمعلّم مستحقاته مقابل ذلك، ليدفع الأهل ثمن مستقبل أبنائهم بالملايين.
أرقام ملغومة: "الأوتوكار" بـ1500 دولار!
لا تَخفى على أحد اليوم صرخة الأهالي المفجوعين بالارتفاع "الهائل" للمصاريف المدرسية، ولا سيّما بدل النقل، فيما يعمد غالبيتهم إلى خدمة "الأوتوكار"، لجهة ارتفاع تكلفة البنزين، أو انشغالاتهم، إلّا أن هذا الترف غير متاح هذا العام، خصوصاً إذا رفع مصرف لبنان الدعم كلياً عن المحروقات، كما يُحكى أخيراً. فهل مصير التلامذة مرتبط بالسوق السوداء؟ وكيف سعّرت المدارس خدمة النقل؟
يبدو أن كيد الأزمة الاقتصاديّة أُفرغ هذه المرّة على الأهالي دفعة واحدة من دون سابق إنذار حتّى، ليجدوا أنفسهم أمام حلّين، إمّا الدفع أو النزوح القسريّ نحو المدارس الرسميّة أو شبه المجّانيّة، هم المثقل كاهلهم أساساً من المستحقات الشهريّة التي أفرغت جيوبهم، فالتعليم عن بُعد لم ينجح، والتعليم الحضوري لن يفلح أيضاً، وهنا بيت القصيد.
"يا فرحتي، عندي 3 أولاد، والأوتوكار لحالو أكتر من 200$ على كل ولد، شو بدن نسرق يعني؟"، هكذا عبّرت "ن. ف." في حديثها لـ"النهار"، بعدما أبلغتها إدارة المدرسة اللبنانية الألمانية بتعرفة الباص لهذه السنة التي بلغت 225 دولاراً، وفقاً للنطاق الجغرافي وخط سير السائق.
تُخبرنا السيّدة التي تعمل في مجال المحاسبة أنّها لم تفكّر يوماً في تغيير مدرسة أولادها على الرغم من تردّي الأحوال ولعبة الدولار، وخاصة أن شركة زوجها لم تعد تغطّي تكاليف المدارس أساساً منذ بداية الأزمة، ولكن هذا الأمر لم يعد مستبعداً، وكما يقول المثل "على قد بساطك مدّ إجريك".
في بلد تحكمه مجموعة كارتيلات، لا عجب في أن يتحكم "كارتيل المدارس" بالأهالي تحت شعار غلاء المحروقات وصيانة الباصات، فما نعرضه من أسعار في هذا التحقيق ليست ثابتة، بل هي عرضة للارتفاع أكثر وفقاً لجدول الأسعار الأسبوعي الذي يصدر عن وزارة الطاقة، أي باختصار يُمكن أن تتخطّى تكلفة "الأوتوكار" 1000 دولار عن كل تلميذ، "واللي مش عاجبو يروح مشي"!
منطقياً، تختلف تسعيرة الباص المدرسيّ وفقاً لنطاق المدرسة الجغرافي وقربها أو بعدها عن منزل التلميذ، وهذه الآليّة التي تعمل وفقها المدارس منذ سنوات عدّة، فما الذي تغيّر اليوم؟ وهل معقول أن يتكبّد الأهل تكلفة 200 دولار ضمن رقعة جغرافية لا تتجاوز 4 كيلومترات مربّعة؟!
بالنسبة لجيزيل غانم فإن "المدارس الخاصّة تستغلّ الأزمة الراهنة لتعوّض خسارتها خلال فترة إغلاق كورونا دفعة واحدة، وكأن الأهالي يتقاضون رواتبهم بالدولار والمعلّم هو فقط المظلوم". تقول غانم في اتصال مع "النهار" إنها "تعيش وأسرتها فقط في بيروت، بينما أهل زوجها يعيشون في كندا وأسرتها تمكث في الجبل طيلة السنة، أي لا يوجد أيّ قريب أو صديق يمكنه الاهتمام بأطفالها إذا قرّرت عدم تسجيلهم بالباص المدرسيّ".
وتُشير الأم العاملة في سياق كلامها إلى أن "إدارة مدرسة الأنطونية – عجلتون طلبت من الأهل تسديد 170 دولاراً بدل مواصلات لكل ولد ضمن نطاق المنطقة، واللافت أن معظم الأهالي سجّلوا أولادهم بالباص المدرسيّ ولم يشتكوا من الأمر بتاتاً".
إدارياً، لا عجب في اختلاف تسعيرة التنقلات بين مدرسة وأخرى، ولكن ماذا عن الاختلاف الكبير بين فروع مدرسة واحدة تتبع لجهة واحدة ومعروفة؟!
هنا تحديداً نوجّه السؤال إلى إدارة المدرسة الأنطونية، التي حدّدت تسعيرة 170 دولاراً عن التلميذ في فرع عجلتون، بينما كانت التعرفة أقل بكثير في الدكوانة حيث لم تتخطّ 60 دولاراً، وهذا ما يدل على حقيقة واحدة هي أن المدرسة تُسعّر وفقاً لقدرة الأهالي ولا علاقة للغلاء المعيشي بالحكاية، وهي "شمّاعة" تُعلّق عليها الإدارات قراراتها بعدما أصبحت "ترند" يوميّاً في البلد!
كل ما ذُكر سابقاً يبقى مقبولاً مقارنة بتسعيرة الباص في مدرسة القدّيس غريغوريوس، التي كسرت كلّ التوقعات، حيث تخطت التكلفة 800 دولار للتلميذ الواحد، وطبعاً هذا الرقم ما هو إلّا تعرفة أوليّة ستشهد ارتفاعاً إضافياً بعد مرور أول شهرين من العام الدراسيّ، لتتحجّج الإدارة بعدها بارتفاع أسعار المحروقات ورفع الدعم المرتقب الأسبوع المقبل... مع العلم بأن كلّ تلك الأمور لا تبرّر هذه التعرفة "المجحفة" وغير المنطقية والتي تُعد واحدة من الأغلى بين المدارس لهذه السنة.
على صعيد مدرسة الجمهور – بعبدا، فقد خُصّص "أوتوكار" لنقل التلاميذ إضافة إلى باص صغير أقل تكلفة، فما الفرق؟
إذا اختار الأهالي "الأوتوكار" الذي عادة ما يكون أوسع وأكثر راحة، فقد حُدّدت التسعيرة من بعبدا إلى بعبدا أي ضمن النطاق الجغرافي الواحد بـ206 دولارات للتلميذ، و734 دولاراً من بعبدا إلى بيروت، و910 دولارات للدورة والمنصورية وعين سعادة والمناطق المحيطة، أمّا من موقع المدرسة إلى بيت مري وبرمانا وبعبدات فبلغت التكلفة 1204 دولارات للتلميذ.
أمّا إذا اختاروا الباص، فتبدأ الأسعار من 359 دولاراً ضمن المنطقة، و987 من بعبدا إلى بيروت، لتصل إلى 1525 دولاراً عن التلميذ الواحد من بعبدا إلى مناطق المتن.
ما موقف لجان الأهل من تسعيرة المواصلات لهذا العام؟
في حديث لـ"النهار" أكّدت لجان الأهل في المدارس الكاثوليكية أنّها "ستتواصل مع الإدارات بخصوص بدل النقل المحدّد بغية التوصّل إلى صيغة تُرضي الطرفين وتكون بالحدّ الأدنى مقبولة، فيما لا يمكن أن يُفرض على الأهل تسديد 50 في المئة من الأقساط بالدولار فضلاً عن المبالغ الطائلة المطلوبة منهم بالليرة اللبنانيّة، وتحميلهم أيضاً عبء المواصلات وكأن البلد بألف خير والعجلة الاقتصادية في عزّها".
على هذه الأيام أن تعتذر للجيل الجديد عن جلّ ما أفرزته لهم من خيبات، هذا أقلّ ما يمكن أن يُقال في هذا الزمن، بعدما أصبح التعليم سبيلاً لمن استطاع أو توفر معه "الفريش" دولار.