رنا وهبي
يكاد لبنان يفقد لقب "مستشفى الشرق الأوسط" الذي حصده عن جدارة منذ تسعينيات القرن الماضي نتيجة تميّزه في القطاع الصحّي. فالأزمة الاقتصادية والمالية انعكست على الأطباء الذين لم يجدوا سبيلاً إلا الهجرة على نحو بات يهدّد بانهيار الأمن الصحي في البلاد، إذ إن هجرة عدد لا بأس به من الأطباء الأكاديميين الاختصاصيين من الفئة العمرية 40-55 سنة الذين يشكلون العمود الفقري للقطاع لما يملكون من خبرة وتمرس في الطب، وفقدان المستلزمات الطبية في المستشفيات أدّيا الى إقفال أقسام ودمج أخرى بغية التوفير، ووضعا القطاع الصحي في غرفة "العناية الفائقة".
مع بدء الأزمة، غادر عدد كبير من الأطباء المخضرمين (تراوح أعمارهم ما بين 40-50 سنة) لعدم قدرتهم على الاستمرار في ظل الأزمة الاقتصادية، أما من بقي منهم، وهم قلة، فهم من الفئة العمرية ما فوق 55 عاماً، اختاروا الصمود في الوطن وتحمّل عبء العمل. وهؤلاء كانوا قد ادّخروا الأموال قبل الأزمة ويعتاشون منها حالياً لأن رواتبهم لا تكفي.
ثمة أطباء معروفون حصلوا على عقود مغرية في الخليج (تراوح بين 20 الى 60 ألف دولار أميركي)، وبعضهم الآخر آثر العمل في أوروبا (بين 6 آلاف الى 10 آلاف يورو شهرياً)، فيما ارتأى آخرون السفر الى الولايات المتحدة الاميركية بعقود ترواح بين 200 ألف دولار و250 ألفاً سنوياً. ولكن بعد فترة، ومع ارتفاع طلب الأطباء في لبنان للسفر الى الخارج، انخفضت قيمة العقود، لتصل الى نحو 3 آلاف دولار للأطباء المتمرسين الذين يجب أن لا تقل عقودهم عن 15 ألف دولار. علماً بأن بعضهم ارتضى بهذه الرواتب، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا بعدما تبيّن لهم أن شروط العمل غير مغرية.
نقيب الأطباء البروفسور يوسف بخاش يشرح لـ"النهار" الظروف التي أدّت الى هجرة الأطباء، فيشير الى أنه خلال العامين الماضين شهد لبنان هجرة عدد كبير من الأطباء والكوادر الأكاديمية على 3 مراحل:
- الموجة الأولى كانت هجرة الأطباء الأكاديميين في المستشفيات الجامعية الكبرى. وهذا النوع من الهجرة بدأ مع الانهيار المصرفي والنقدي بعد ثورة تشرين 2019، إذ غادر قسم منهم الى أميركا وأوروبا حيث تلقوا دراستهم ويحملون جنسيات هذه البلاد.
- الموجة الثانية كانت بعد انفجار مرفأ بيروت الذي قضى على ما بقي من أمل لدى العديد من الأطباء الذين غادروا البلاد مع عائلاتهم الى الخليج.
- الموجة الثالثة من الهجرة جاءت على خلفية الازمة المصرفية وانعكاساتها على ما يتقاضاه الأطباء الذين يتعذر عليهم الحصول على أجورهم المحولة الى المصارف من الجهات الضامنة.
نحو 600 طبيب يتخرجون سنوياً من الجامعات اللبنانية، فيما راوح عدد الأطباء الذين هاجروا منذ تشرين 2019 بين 3000 الى 3500 طبيب، علماً بأن غالبية الكوادر لديهم نيّة العودة الى البلاد فور انفراج الأزمة الاقتصادية، وفق ما يقول بخاش الذي ينبّه أيضاً الى ظاهرة هجرة الجيل الجديد من خرّيجي الطب لمتابعة اختصاصاتهم في الخارج، مع إمكان انخراطهم في العمل خارج لبنان، إذا بقيت الأوضاع على حالها.
ويبدو تأثير هجرة الأطباء أكثر في مناطق الشمال والجنوب والبقاع التي تفتقر الى اختصاصيين وخصوصاً جراحة الأطفال، وهذا النقص وفق بخاش بدأ يتمدّد الى المستشفيات الجامعية في بيروت، فقسم جراحة الترميم مثلاً كان يضم 6 أطباء اختصاصيين، تقاعد اثنان منهم وهاجر اثنان ليقتصر العدد حالياً على اثنين فقط.
وعلى الرغم من النقص الكبير في أعداد الاطباء، تحافظ الخدمات الطبية والتعليم الطبي على مستواها الجيّد. وبعدما كان لبنان مستشفى الشرق الأوسط وملتقى للسياحة العلاجية، حدّت هجرة الأطباء الى الخليج والعراق من استقطاب السياحة الاستشفائية، إذ أصبحت الخدمات الطبية اللبنانية متوافرة في بلادهم، وفق ما يقول بخاش، و"تالياً لا حاجة لقدومهم الى لبنان".
ولكن الى متى يمكن أن يبقى القطاع صامداً؟ وهل الحل بالدولرة؟ يرى بخاش أن دولرة القطاع غير كافية لتعافيه، فـ%75 من اللبنانيين غير قادرين على تسديد كلفة الطبابة بالدولار، فيما توقف غالبية مرضى السرطان عن شراء الدواء لعدم قدرتهم على تسديد ثمنه.
صعوبات تواجه الأطبّاء؟
بات معلوماً أن الأزمة الاقتصادية والمالية انعكست على انخفاض حالات دخول المستشفى، وهذا بدوره انعكس على المرحلة التدريبية لتلامذة الطب، فبدل أن يعاينوا 20 حالة يومياً أصبحوا يعاينون 10 حالات على الاكثر، بما يضعف مستوى الطالب في الأمور التطبيقية وتشخيص المرض. الى ذلك ثمة صعوبات يواجهها الاطباء في المستشفيات، إذ يشير الدكتور إيلي بركات (طبيب سنة ثالثة اختصاص في الأمراض النسائية والولادات chef resident) الى النقص في المستلزمات الطبية، والنقص في عدد الأطباء الاختصاصيين الأكاديميين إضافة الى المردود المادي المتدني بسبب تراجع قيمة الليرة اللبنانية. فالكثير من الأطباء غادروا البلاد أو توقفوا عن التعليم بسبب انخفاض البدل (180 ألف ليرة في الساعة الواحدة). وقال "كخريجين جدد لا خيار آخر أمامنا، وعلينا أن نرضى بهذه التسعيرة طلباً للعمل وكسب الخبرة، أما الأطباء المتمرسون فلا يرضون وهذا طبيعي". أضاف "لم أفكر في الهجرة يوماً، ولكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية بدأت بالتفكير جدياً في الهجرة رغماً عن إرادتي، ولن أعود قبل استقرار الوضع الاقتصادي في البلاد".
أما الدكتور حبيب بركات (جراحة نسائية توليد وعقم ورئيس قسم الجراحة في مستشفى سيدة المعونات الجامعي) فيوضح أن الطبيب الأكاديمي يدرس ما بين 15 الى 20 سنة حسب الاختصاص، فيما تكاليف دراسته بين 500 ألف ومليون دولار حسب أقساط الجامعة، فهل يُعقل أن يقبل بمردود متدنٍّ جداً؟ والأنكى أن هذا تحصيل هذا المردود بطيء فهو بحاجة الى سنتين أو ثلاث سنوات ليبدأ بجني الأموال فيما الجهات الضامنة تأخذ وقتها لدفع أجر الطبيب، فإذا أجرى الطبيب 50 عملية جراحية في الشهر لا يقبض أتعابه إلا بعد سنتين أو ثلاث حسب الجهات الضامنة. وهذا التأخير في الدفع خصوصاً في ظل انهيار قيمة الليرة سبب أساسي يدفع الجيل الجديد من الأطباء الى الهجرة بحثاً عن مردود مادي يستطيعون به إعالة عائلاتهم.
من جهته، يحذر الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين من أن "وضع الأمن الصحي في لبنان مهدّد ليس فقط بسبب هجرة الأطباء، بل ايضاً بسبب ارتفاع كلفة الطبابة والاستشفاء عدا عن ارتفاع سعر الأدوية، فيما غالبية اللبنانيين عاجزون عن تأمين هذه الكلفة خصوصاً في ظل تراجع خدمات الجهات الضامنة، علماً بأن بعض الأطباء يفرضون معاينة مرتفعة تصل الى 100 دولار. وفيما يشير شمس الدين الى أن وجود المستوصفات يحدّ من تفاقم الأزمة، يحذر من انه "إن لم تتم معالجتها، فقد نصل الى مرحلة نرى فيها عشرات اللبنانيين يموتون في بيوتهم لعدم قدرتهم على دفع تكاليف العلاج".
وإذ قدّر عدد الأطباء الذين هاجروا إلى أوروبا والخليج بنحو 800 طبيب، أوضح أن "البروفسور في أوروبا لا يجني أموالاً طائلة، إذ إن مدخوله لا يتعدّى 15 ألف يورو، يدفع منها ضرائب، ويعمل تحت ضغط كبير على عكس البروفسور الذي يعمل في لبنان من دون أي ضغوط تُذكر ويعيش حياة رغيدة".