كثيراً ما تنتشر قصص النساء المعنفات اللواتي تعرّضن للضرب المبرّح أو الشتم، أو حتّى التحرّش في مجتمعاتنا، فهناك دائماً مَن تُحرم من تعليمها أو حقها في اختيار شريك الحياة أو من الميراث بسبب العادات والتقاليد أو فكر المجتمع "الذكوريّ" أو "الرجعي" الذي لا يرحم.
ولكن في المقابل، هناك العديد من النساء اللاتي خلقن لأنفسهن قصص نجاح من صلب المعاناة، ليُثبتنَ أن قدر المرأة ليس المطبخ أو الإنجاب فقط، وأن الطلاق ليس "عورة" المرأة كما يزعمون، وزينب الحُسيني خير دليل على ذلك.
زينب (26 عاماً) كانت إحدى هؤلاء النساء اللاتي قرّرن تحطيم قيود العنف والمجتمع، ويصنعن لأنفسهن حياة أخرى لا خوف فيها، لتصبح قصة نجاح ونموذج لكل أنثى ظنّت أن الحياة مجرّد كلمة أو فرض عليها، لا عالم يستحق أن نحيا فيه!
"وُلدت في أسرة ملتزمة دينياً، ومتشدّدة في كل ما يتعلّق بأمور العائلة، ففكرة الطلاق غير واردة بتاتاً وليس من حقّي أو حدودي التفكير فيها حتّى، إذ لا بأس بأن يضربني زوجي أو يخونني فأنا حلاله ومهما ابتعد فسيعود لينام ليلاً بقربي، فماذا أريد أكثر من ذلك؟"، تُخبرنا زينب بسخرية عن تجربتها الزوجية التي خاضتها قبل 6 سنوات في لحظة "طيش" و"تهوّر"، ظناً منها أن الحياة عبارة عن رجل يُسمعنا الكلام المعسول أو "مشوار" بالسيّارة لتكتشف أن الحقيقة مغايرة لمخيّلاتها الطفولية وموجعة أكثر...
المراهقة فترة لا تُنسى في ذاكرتنا عموماً، فمن منّا نَسي نظرات العشق الأولى التي كنّا نسرقها خلسة في الصف؟ أو اللقاء الأول في الحديقة الخلفية للمدرسة؟ أو القبلة الأولى في فناء الملعب؟ كلّ هذه مشاعر جديدة "أنثوية" تعيشها الفتيات في سنّ معيّنة، وهذا أمر طبيعي، ولكن ما هو غير طبيعي فرض قوانين وأحكام على أولئك الشابات المراهقات تحت اسم الشرع أو الدين وإجبارهنّ على الزواج بمراهق غير مستعدّ أساساً لهذه المسؤولية، وهنا بيت القصيد.
"أحببنا بعضنا كثيراً في البداية، أو على الأقل هذا ما ظننته. كنا نلتقي خلسة ونهرب من الحصص المدرسية لنرى بعضنا ربع ساعة، قبل أن يصطحبني أخي الكبير إلى البيت خلال عودته من العمل. أذكر كيف كان ينبض قلبي عند رؤيته حبّاً، وكيف ارتعشت عندما لمسني للمرة الأولى، هذه التفاصيل قد تبدو تافهة بالنسبة للبعض ولكنها غيّرت حياتي وقلبتها رأساً على عقب. فيا ليتنا بقينا مراهقين، نهرب لنأكل الذرة المشويّة على كورنيش صور، فكم تمنيت لو بقينا على كرسي الحديقة المجاورة لمنزل خالتي فاطمة التي كانت تساعدني على رؤيته وتقدّم لي النصائح التي لم تتمكن هي نفسها من تطبيقها، لأنها فتاة مسلمة ومثل هذه الأمور محرّمة علينا خارج الشرع"، تقول زينب.
عادةً، يحاول الأهل تأجيل فكرة ارتباط ابنتهم، إذ تكون مدللة البيت و"غنوجة بيا"، فلها الحكم والقرار، ولا يمكن لأيّ أحد التدخل بها مهما كانت صلته... أو على الأقل هذا ما نعرفه نحن ونراه من مكاننا كمشاهدين، أمّا على أرض الواقع، فالقصص صادمة ومؤسفة.
"اكتشف أخي علاقتي بقريبي أحمد، فمنعني من الذهاب إلى المدرسة مدة أسبوع، بعدها تدخل خالي وأقنعه بضرورة إجرائي امتحانات نهاية السنة، شرط أن يوصلني هو بنفسه ليضمن ألّا أتواصل مع ابن المنطقة "الفلتان" حسبما كان يعتبره، لأنّه لا يتناسب مع مستوى عائلتي الاجتماعيّ ولا مكانتنا في المنطقة، إلّا أن معارضتهم لحبنا زادتني إصراراً على التقرّب منه والتمسّك به، فكثرت الضغوط عليّ حتّى إنّهم حاولوا إرسالي إلى عمي في سوريا لأمكث معه فترة هناك ريثما أنتزع عشقي الممنوع من قلبي وعقلي، وهذا أيضاً لم يحدث. كم كنت حمقاء!"، تُتابع بطلة الحكاية ممازحة وهي تستذكر تفاصيل قصّتها الملهمة، وكأنّها تعيشها مجدّداً لكن هذه المرة بنظرة الخبيرة لا المبتدئة.
ساعة من الوقت كانت كفيلة بأن أعرف حكاية زينب، التي طلبت مني بإصرار أن أظهر اسمها كاملاً، من دون خوف أو تردّد، في رسالة أرادت إيصالها عبر "النهار"، مفادها أن "شرف المرأة ليس بجسدها، بل بكرامتها، فالجسد يُدنّس شرعاً تحت مسمّى الحلال، أمّا الكرامة إذا تدنّست فعوضنا على الله".
"عندما طُلبت للزواج وافقت على الفور، فكنّا أساساً قد خططنا لهذه اللحظة معاً، فكرت أنني سأرتاح وسأتخلص من ضغوط عائلتي وتشدّدها، لكن مع الأسف خاب ظني إذ كنت أنا "الكنة" العديمة الفائدة التي لا تُجيد الطبخ أو الأعمال المنزلية، كما لم تنجب الأطفال، فكنت أرى وأسمع حماتي وهي تحرّض زوجي ضدّي، الذي لم يوفر فرصة لإهانتي أو ضربي وهو يقول: "ما حدا جبرك على شي أنت للي جيتي بإجريكي لعندي وأهلك موافقين"... هذه الكلمات بنت سدوداً يصعب اجتيازها بيني وبين أحمد، فلم أعد حبيبته المدلّلة بل أصبحت عدوّته والإنسانة التي سلبت منه حرّيته وشبابه، فراح يسهر خارج البيت يومياً، وأحياناً ينام لأيام من دون أن يخبرني بمكانه، وأنا كنت أعرف أنّه يخونني ويعاشر النساء في بيروت ولكن لا يحقّ لي الكلام فأنا الحلقة الأضعف وهو ساتر عرضي وشرفي".
إلى جانب تصرّفات زوجها "الباردة" و"القاسية"، عانت زينب من معاملة حماتها "الظالمة"، التي كانت تخفي عنها الطعام وترميه في القمامة كي لا تأكل، فضلاً عن أنّها كانت تدخل عليها ليلاً إلى غرفة النوم وتبحث في قمصان نومها بحثاً عن أيّ شيء يُدينها أو يغضب زوجها منها.
"كنت أنام أياماً كثيرة بدون طعام وتحمّلت الجوع والمعاملة المهينة لي وكلام زوجي الجارح ولكن لا خيار لي فمن كانوا سنداً لي لا يمكنني اللجوء إليهم، ولكن ما حصل تلك الليلة غيّرني، ومن بعدها وجدت نفسي... وجدت زينب الضالة. في 13 حزيران 2016، وتحديداً كان يوم الاثنين، سافرت حماتي عند ابنتها في قطر، وكنت وحدي في المنزل مع زوجي أحمد، فرنّ هاتفي قرابة الساعة الخامسة وإذا به أحمد يطلب مني الذهاب إلى بيت ابنة خالته لقضاء الليلة لأنّه سيتأخر وكي لا أبقى وحدي، بداية فوجئت ولكنني كنت بحاجة إلى التحدث مع أحد ورأيتها فكرة جيّدة للتمويه عن نفسي عوضاً عن جلوسي أمام التلفاز كالمسنين. ولكن الله عندما يريد أن يكشف لك أمراً يُسخر الكون لهذه الغاية. فعند الساعة التاسعة مساءً بدأت حرارة طفل قريبتي ترتفع، والصيدليات مقفلة ولا حل سوى بمحاولة خفضها منزلياً ريثما يصل والده إلى الجنوب لينقله إلى المستشفى، فهرعت إلى منزلي لأحضر بعض الأدوية والخلّ، فرأيت زوجي برفقة إحدى بنات الهوى في فراشي وكأنّني حشرة لا قيمة لها، عندما واجهته بخيانته ضربني وقال لي بالحرف: "أنا هيك إذا مش عاجبك انقلعي لبرا خلص قرفت منك".
سلاح المرأة رجلها، هكذا يقولون، أو ربما هذه الأيديولوجية التي تربّوا عليها قديماً عندما كانت الحياة بدائية وسطحية مقارنة بيومنا هذا. ولكن، هل هذا يعني التنازل عن كرامتنا والاستسلام؟ هل الشرع يُحلّل التعذيب ويبغض الخلاص؟... أسئلة كثيرة تتردّد على أذهاننا عند سماعنا حكاية زينب والإجابة عندها فقط.
"لجأت إلى والدي، وللأمانة استمع إليّ حتّى النهاية، حتّى إنّه ضمّني إلى صدره، قائلاً: "بسيطة يا بابا بتصير بين الرجال ومرتو، أنا رح ابعت ورا أحمد واحكيه... هيّنة"... تجمّدت في مكاني، فأين البساطة التي وجدها والدي في معاناتي؟ أين قيمتي عندهم؟ أين كرامتي؟ في تلك اللحظة خُذلت من عائلتي أكثر من خيانة زوجي لي، ولكنني لا أملك الخيار ولا المال، فعدت إلى المنزل الذي ضُربت فيه يومياً لأتفه الأمور حتّى إن كان ملح الطبخة قليلاً، إلى أن هربت لا أعرف كيف، وتركت القرية كلّها وأهلي وزوجي وكلّ شيء بحثاً عن راحة البال، التي وجدتها في دراستي الجامعية التي استكملتها وأصبحت معالجة نفسية أعمل مع منظمات حقوقية نسوية تُعنى بمثل حالاتي على أمل أن يجدن أنفسهن وبعدها الباقي سهل".
في مجتمعاتنا، يعتمد نجاح الأنثى على قدرتها على تأسيس زواج ناجح وربط اسم عائلتها بعائلة أخرى، وبالتالي تقوية اسم كلتا العائلتين، وهذا ما أثبتت زينب عكسه في بيئة متشدّدة دينياً وعقائدياً، فشقّت طريقها بنفسها وأعادت ترتيب حياتها كما تُريد... فما بين خيار المواجهة والاستسلام خيط رفيع وبيد المعنّفة وحدها قطعه أو إبقاؤه عائقاً أمامها.
قانونياً، توضح المحامية في جمعية "كفى" فاطمة الحاج في اتصال مع "النهار" أنهن يقدّمن الاستشارة القانونية والمساعدة النفسية للسيدات اللاتي يتواصلن معهن، فمثلاً توكل الجمعية أحد المحامين لمتابعة قضيتها إن كانت بحاجة إلى حماية، ليقدّم الوكيل عنها طلباً إلى قاضي الأمور المستعجلة بهدف اتخاذ إجراءات فورية لحمايتها بالدرجة الأولى، وإن كانت تعرّضت للضرب أو التعنيف تُقدَّم دعوى جزائية بحق الزوج أو الجهة المعنّفة مهما كانت درجة القرابة، كذلك الأمر إن كانت تعاني مشاكل على صعيد الأحوال الشخصية مثل قضايا الحضانة، النفقة، الطلاق، إبطال الزواج... على أن تتابع هذه القضايا لاحقاً في المحاكم المختصة وفقاً لكلّ حالة بعد التشاور معها ودراسة الملف.
ما أهمّية دور "كفى" وغيرها من المنظمات اليوم؟
تشرح المحامية في سياق حديثها أهمّية توافر الدعم النفسيّ للسيدة بالدرجة الأولى لكي تشعر بأنّها في أمان ومستعدّة لمواجهة كلّ من تسبّب لها بالأذى، وهذا تحديداً هدف الجمعيات وفي طليعتها "كفى" التي تحاول تمكين المرأة والإضاءة على نقاط قوتها، أمّا إن كانت السيّدة أساساً ذات شخصية قويّة ومتفهمة لواقعها، فهنا تؤدي الجمعية دوراً في مساعدتها على تتبع الأوراق القانونية، أو كتابة نصّ دعوى الطلاق مثلاً، أو حضور جلسات المحكمة برفقتها.
بعد انتهاء فترة الحجر الصحّي ومع عودة الحياة إلى طبيعتها، ماذا عن أعداد النساء المعنّفات؟
تكشف الحاج أن "كفى" استقبلت نحو 1200 حالة منذ بداية السنة لنساء معنّفات، وغالبيتهن يعانين من مشاكل قانونية، حتّى إن كان بعضهن لا يُردن متابعة الأمور قضائياً، إذ من حقّ كلّ سيدة الحصول على استشارة قانونية كخطوة أولية وبعدها القرار بيد السيّدة نفسها، ولا يمكننا اتخاذه عنها أو إجبارها على أيّ شيء.
القوانين الشخصية في لبنان مجحفة وهذه حقيقة لا تخفى على أحد، فكيف تنسّق الجمعية بين النصوص القانونية والطوائف المختلفة؟
لعلّه من أكثر الأسئلة الشائعة في لبنان اليوم لا سيّما بعد ارتفاع نسبة الطلاق، بحيث ينصب التركيز على أمور الحضانة والنفقة. في هذا الإطار، تؤكّد المحامية هذه الفرضية، مشيرةً إلى أن السيدات ينقسمن إلى نوعين، فمنهن من تركت منزلها الزوجي بكامل إرادتها وسط دعم عائلتها ممّا يجعل الأمور أكثر سهولة، في مقابل نساء أخريات لم يحظين بالدعم ذاته، وهنا تبحث الجمعية مع المحامين عن حلول بديلة لمقاربة الملف، فمثلاً كانت الجمعية تبحث عن مراكز إيواء سرّية للضحية حفاظاً على حياتها قبل جائحة كورونا، ولكن اليوم في ظل اكتظاظ هذه المراكز، تتبع الجمعية سياسة أخرى تقوم على توفير مبلغ مالي بسيط للسيّدة لتتدبّر نفسها ريثما تتضح نهاية قضيتها، وسط متابعة يومية وقانونية من قبل فريق العمل الموكل بقصتها.
في لبنان، كل امرأة من أصل 5 نساء تبحث عن الحماية، وذلك في دراسة إحصائية أجرتها منظمة "أبعاد" السنة الماضية حول "أولويات الفتيات والنساء في لبنان اليوم ومدى شعورهنّ بالحاجة الى الحماية".
ولفتت الدراسة إلى أن 96 في المئة من الفتيات والنساء اللواتي تعرّضن للعنف المنزلي في لبنان لم يبلّغن عن هذا العنف خلال 2021، وأن 2 من كل 5 نساء تمتنعان عن التبليغ بسبب الخوف من ردة فعل الجاني، فيما اعتبرت 62.4 في المئة من العيّنة التي شملتها الدراسة أن التحديات الإقتصادية هي في رأس قائمة التحديات التي يواجهنها، تليها التحديات الاجتماعية بنسبة 22.6 في المئة ثم التحديات النفسية 11.6 بالمئة.
الدراسة جاءت ضمن حملة قامت بها منظمة أبعاد بعنوان #دايماً_وقتها للتأكيد أن حماية النساء هي أولوية في كل الأزمات، ولتعريف النساء إلى حقوقهن في التبليغ عن أي عنف قد يتعرّضن له.
إن كانت القوانين بالية ومجحفة بحقكن، لا تقفن مكتوفات الأيدي أو ترضخن للتعذيب تحت عنوان الدين أو الشرع أو الحبّ، فخلاصكن بأيديكن... والقرار أيضاً.